الغارديان: حكام سوريا الجديدة يحثون ضباط أمن نظام الأسد البائد على تسليم أنفسهم
تلفزيون سوريا -

بدت الأروقة القذرة داخل مقر المخابرات العامة مظلمة وخاوية، في حين تناثرت أكوام من الصناديق والبلاستيك بالقرب من الدرج المفضي إلى المبنى المهيب، ناهيك عن الصور الممزقة للرئيس المخلوع بشار الأسد.

وفي الشارع خارج المبنى، تناثرت السيارات التي تركها أصحابها على عجل بعد أن تحطم زجاجها الأمامي وغمرت طلقات الرصاص الفارغة الأرض كدليل على قيام عمليات السلب والتدمير التي حصلت قبل شهر وذلك عندما صبّ السوريون جام غضبهم على رموز الدولة الأمنية المرعبة التي مثلت نظام الأسد، هذا الغضب الذي تراكم واحتقن طوال عقود.

واليوم، تحول مبنى المخابرات هذا إلى مقر تقوم من خلاله السلطات الجديدة في سوريا بتوجيه دعواتها لمن خدموا داخله حتى يقوموا بتسليم سلاحهم وأنفسهم، ولهذا وقفت طوابير من الرجال في باحة المقر ليتسلموا أوراقاً تثبت تسليمهم لأنفسهم بشكل رسمي وتصالحهم مع الإدارة الجديدة، في وقت ارتدى الثوار السابقون بزات عسكرية جديدة وأخذوا يتفحصون المسدسات والبنادق والطلقات. وفي أحد المكاتب المؤقتة، تظهر صورة كبيرة للأسد وقد ألقيت على الأرضية حتى يدوسها كل غاد ورائح.

الأمان مقابل التعاون

تمثل مراكز التسوية التي أقامتها حكومة تصريف الأعمال السورية الجديدة محاولة لتفكيك الأجهزة الأمنية المرعبة التي نشرت الخوف بين الناس وفتح صفحة جديدة مع المستقبل.

والآن، وبعد أن كان ثوار سوريا يخشون من أسلحة نظام الأسد ومراقبته، صاروا يرحبون بالوافدين إلى المراكز ممن كانوا يعملون ضمن أجهزة الدولة الأمنية الموسعة ويسعون إلى استهدافهم، وصار بإمكان الضباط السابقين الذين بوسعهم أن يُسدوا خدمات للإدارة السورية الجديدة أن يحتفظوا ببعض مزايا حياتهم السابقة في الوقت الحالي.

يخبرنا عن ذلك أبو سارية الشامي وهو مقاتل سابق لدى هيئة تحرير الشام يشرف حالياً على إدارة مركز التسوية هذا، فيقول: "يأتي الناس إلى هنا خوفاً من أعمال القتل الانتقامية، غير أن معظم الضباط أخبرونا أنهم كانوا يعملون في المطبخ أو في مجال قيادة السيارات"، ويخبرنا بأن دور عناصره يتلخص بتطمين من كانوا يعملون لدى النظام البائد من أي خوف، شريطة تعاونهم من السلطات الجديدة.

المعاملة بالعدل لا بالمثل

تعهد أحمد الشرع قائد هيئة تحرير الشام الذي يترأس الإدارة الجديدة بملاحقة القيادة الجديدة لأصحاب الرتب الرفيعة في جيش النظام وقواته الأمنية، وذلك بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها، ولكن لم تتضح أهمية هذا الكلام فيما يتصل بالمشاة من جنود النظام السابق أو الذين جُنّدوا بشكل إجباري ضمن صفوفه، بيد أن الشامي أخبرنا بأنه قابل وجهاً لوجه شخصيات يعرف بأنها ارتكبت جرائمَ، لكنه قاوم رغبته في الانتقام على الرغم من أن جسمه يرتعد لمجرد تذكُّر ما رآه منهم، ويعلق على ذلك بقوله: "لديَّ من الخبرة ما يكفي، وبوسعي أن أسيطر على نفسي، ولعلَّ بعض أصدقائي هنا شاهدوا أشخاصاً وهم يُقتلون، أو أنهم يعرفون أشخاصاً كانوا يقيمون في المناطق التي تعرضت للهجوم، ولقد التقيت ضباطاً كانوا مسؤولين عن شن هجوم على مدينتي جبل الزاوية، كما كانوا مسؤولين عن تعرض بعض النساء للاغتصاب، لكني عاملتهم بما تقتضيه العدالة".

اقرأ أيضاً

وصل النائب السابق لأحد القادة العسكريين إلى مديرية شرطة اللاذقية مرتدياً سترة جلدية ووشاحاً حريرياً كستنائي اللون، فشد على ذراع الشامي بطريقة ودية، وبعد أن وجّه الشامي هذا الضابط السابق في جهاز الشرطة والذي تعود أصوله لمعقل الأسد نحو طابورٍ يسير بشكل أسرع، شرح لنا بأنه يريد لكبار الضباط السابقين بأن يشعروا بالاحترام تجاه رتبهم التي كانوا يحملونها في السابق، وبما أنهم أتَوا بموجب موعد مسبق، لذا لا يجوز أن ينتظروا برفقة البقية في الخارج بحسب رأيه.

وتعليقاً على ذلك يقول الشامي: "استقبلنا البارحة مثلاً في مكتبنا ضابطاً سورياً كان يشغل منصب ضابط ارتباط مع الإنتربول، لذا سيحتفظ هذا الرجل ببيته وسيارته وهذا ما نريده له، إذ بوسعنا أن نستفيد من خبرته، لأننا نريد أن نستفيد من هؤلاء الناس في إدارة سوريا الجديدة".

سمح هذا الضابط السابق في جهاز الأمن لممثلي الإدارة السورية الجديدة بدخول مكتبه، كما أخبرنا الشامي الذي يرى بأن هذا الرجل سوف يزودهم بمعلومات عن المطلوبين لأجهزة الشرطة من خارج سوريا.

ويخبرنا الشامي بأن الضباط الذين بوسعهم مساعدة الحكومة الجديدة: "يمكنهم البقاء في بيوتهم ما لم تصلهم أوامر جديدة [تأمرهم بإخلائها]".

"مجرد وظيفة"

بعض الأشخاص الذين تقاطروا بالآلاف على مراكز التسوية كانوا يعملون داخل مبنى المخابرات العامة، لكنهم عادوا ليسلموا أنفسهم حرصاً منهم على التقليل من أهمية الأدوار والمناصب التي شغلوها في السابق، حتى في الوقت الذي تدل فيهم نظراتهم المترقبة وهمساتهم الخائفة مع زملائهم السابقين إلى أنهم يعرفون أكثر مما يرغبون في الإدلاء به.

ذكر أحدهم أنه كان يعمل ميكانيكياً، ثم أصبح سائقاً لدى جهاز المخابرات، لكن القلق بدأ يساوره عندما سئل عن مسماه الوظيفي السابق، فرد بالقول: "كان مجرد عمل"، وشبك يديه الناعمتين بنزق وعصبية.

أشرفت أجهزة المخابرات العامة بسوريا على شبكة مراقبة محلية بالإضافة إلى إشرافها على سجن تعرض فيه معتقلون سابقون للتعذيب بأمر من اللواء أنور رسلان الذي أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في محاكمة أقيمت بألمانيا قبل ثلاث سنوات، وحكم عليه بالسجن المؤبد هناك.

اقرأ أيضاً

أعلن شاب لم يُدلِ سوى باسمه الأول، طوني، أنَّ عملَه كان يقتصر على: "جمع معلومات عن الأجانب الذين زاروا سوريا، أي أنني لم أفعل أي شيء.. ولم أشارك في أي عملية عسكرية".

أخذت عينا طوني تجولان حوله بكل قلق عندما سار زملاؤه السابقون أمامه متجاوزينه، وبينهم رجل ذكرَ أنه كان ضابطاً سابقاً في مديرية المخابرات، وأعلن أنه ناشد السفارات اليونانية واللبنانية والروسية لمساعدته بما أنه كان مرتبطاً بها في السابق، لكن السفارات تجاهلت طلبه للمساعدة، على الرغم من اعتقاده بأنه يمكن أن تتم تصفيته هو وزوجته.

عملت زوجته في مركز سوري للبحوث مرتبط بالجيش منذ أمد بعيد، ويعتقد محللون متخصصون في مجال الدفاع بأن هذا المركز كان مقراً لتصنيع الأسلحة الكيماوية التي استخدمها الأسد ضد شعبه، ولهذا يعتقد طوني بأن الإدارة الجديدة: "قد ترى فينا أشخاصاً أيّدوا نظام الأسد".

حاول طوني أن يحتفظ بمسافةٍ بين ما رآه طوال عَقدين من عمله لدى المخابرات العامة وبين الاتهامات التي انتشرت حول التعذيب والانتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، فصار يقول إنه عندما يعتقل جهاز أمن الدولة أحدَهم فإن: "التهم تكون حقيقية، وتكون لديهم وثائق [تثبت ذلك]، ولكني لا أستطيع أن أجزم إن كانوا قد ارتكبوا انتهاكات بحق أحدهم أم لا، لأني لا أريد أن أتسبب بمشكلات لأي أحد، بيد أن نظام الأسد كان فاسداً جداً، ولهذا لم يكن بوسعنا أن نشتكي لأننا عندئذ سنتعرض للانتهاكات مثلنا مثل البقية".

جلس طوني في ظل البناء المهجور تحت شمس الشتاء، وأخذت عيناه تراقب المكان الذي عمل فيه طوال عشرين سنة من عمره الذي أصبح اليوم 40 عاماً، والقلق يساوره تجاه ما قد يحدث لاحقاً.

لم يعد لطوني أي وظيفة أو راتب يعيش منه، ويخبرنا بأن إحساسه بالخوف وعدم الاستقرار يجعله يفكر بعودته إلى قريته القريبة من الحدود اللبنانية وذلك قبل أن يفكر بطريقة تساعده على الهروب من البلد، ويعلق على ذلك ضابط المخابرات السابق، فيقول: "ما هو العمل الذي سأزاوله بعد الآن بوجود الخبرة التي أتمتع بهذا في هذا المضمار؟ هل سأقود سيارة أجرة؟ ثم هنالك الآلاف مثلي ممن عملوا هنا".

 

المصدر: The Guardian



إقرأ المزيد