تلفزيون سوريا - 1/14/2025 2:43:51 AM - GMT (+2 )
غلبت الدهشة المحامية الحقوقية نورا غازي عندما بلغها نبأ هروب بشار الأسد من سوريا في مطلع شهر كانون الأول الماضي، لأن النظام هو من قرر مصير أسرتها منذ نعومة أظفارها، إذ عندما كانت في الخامسة من عمرها، حبس النظام أباها بسبب نشاطه في المجال العمالي، أما زوجها فقد اعتقل خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، ثم بلغها بعد فترة طويلة نبأ إعدام نظام الأسد له في السجن، والآن، حان دور الأسد ليرحل.
مع سيطرة مقاتلي المعارضة على دمشق خلال الشهر الماضي، فتحوا أبواب السجون الموصدة، وسمحوا لآلاف السوريين بالخروج والتحرر منها، فسعد من تحرروا من سجن صيدنايا المعروف بصيته السيئ واسمه الشنيع: (المسلخ البشري)، أو من السجون الأخرى الموجودة في حمص مثل سجن حمص المركزي ونعموا بنور الشمس في أثناء التقاط عدسات الكاميرات صوراً لهم تعبر عن بهجتهم، وقد جرى تداول تلك الصور ومشاركتها بشكل واسع عبر الإنترنت. غير أن المعلومات المضللة انتشرت هي أيضاً بشكل واسع عبر الإنترنت، ما غطى على الأخبار السارة، ولهذا لم يتسن لنورا سوى وقت ضيق لتحتفل بسقوط النظام.
"لا سلام بلا محاسبة"تمثل المنظمة التي أسستها نورا هي وزوجها الراحل باسل خرطبيل الصفدي 3500 أسرة سورية تعرض أولادها وأحباؤها للاعتقال التعسفي على يد نظام الأسد، ويقدر عدد المفقودين في السجون السورية بنحو 150 ألفاً وذلك خلال فترة الحرب، وبما أن أغلب أفراد عائلات موكليها مايزالون في عداد المفقودين، لذا أمضت نورا هي وزملاؤها الشهر الماضي بلا نوم في أغلب الأحيان وهم يبحثون عن المفقودين ويسعون لتأمين الرعاية الطبية لمن خرجوا من السجن حديثاً.
وفي الوقت الذي عملوا على تحديد مكان الأحياء من المفقودين، عانت منظمتها، نوفوتوزون، الأمرّين وهي تحاول حفظ الوثائق التي أفرج عنها مؤخراً، والتي كانت مخبأة في أماكن سرية قبل هذا، بما أن نظام الأسد كان يستعين بهذه الوثائق لتسجيل انتهاكاته.
وفي الوقت الذي تستعد البلد لإعادة تشكيل حكومتها الجديدة بعد مرور أكثر من خمسين عام على الحكم الديكتاتوري، يسعى السوريون جاهدين في العمل على عملية بحث معقدة سعياً منهم لتحقيق المحاسبة على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، إذ خلال حكمه، قام النظام بسجن الآلاف من السوريين وتعذيبهم وإعدامهم، أما جيشه فقد قتل الآلاف من الناس خلال فترة الحرب، كما استهدف المدنيين والبنية التحتية المدنية، وعلى رأسها المشافي، وذلك بالقنابل والسلاح الكيماوي. واتهمت فصائل ثورية عدة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وفي الوقت الذي أنهى إسقاط الأسد القتال، فإن الجراح التي خلفتها الحرب ماتزال تهدد السلام الذي صار السوريون يعيشونه منذ فترة قريبة.
تعلق نورا على ذلك بقولها: "خلال عملية إعادة بناء سوريا، لن يتحقق السلام من دون العدالة والمحاسبة".
كنوز من الوثائق التي تدين النظامأعلنت هيئة تحرير الشام التي قادت الهجوم العسكري الذي أطاح بالأسد بأنها ستبقى تحكم البلد من خلال حكومة انتقالية حتى شهر آذار المقبل، وألمحت إلى جديتها بشأن جرائم الحرب التي ارتكبت في الماضي، كما أعلنت عن تشكيل هيئة قضائية لحقوق الإنسان لتسهم بدورها في وضع دستور جديد، وصرحت بأن لديها قائمة تضم أسماء كبار الضباط المتورطين في عمليات التعذيب، وتعهدت بمكافأة لمن يدلي بمعلومات من شأنها أن تساعد في القبض على هؤلاء.
ثمة تخوف من الطريقة التي سيتعامل بها حكام سوريا الجدد تجاه مختلف الطوائف في سوريا، وهذا ما دفع بعض المنظمات الحقوقية والمعارضين للتذكير بانتهاكات حقوقية ارتكبتها الهيئة ناهيك عن القمع العنيف الذي مارسته عندما كانت تحكم محافظة إدلب.
فيما قامت منظمات حقوقية أخرى بمنح ثقتها لهيئة تحرير الشام وذلك بسبب إسهامها في الجهود الساعية لحفظ الأدلة التي تثبت وقوع مجازر جماعية في سوريا، إذ إلى جانب السجون، رحل النظام السوري أيضاً عن مكاتب المخابرات عند هروبه من البلد، وهذه المكاتب تحتوي على كنوز من الوثائق والملفات التي وردت فيها تفاصيل العمليات التي نفذتها قوات الجيش والشرطة التابعة للنظام البائد، وهذا ما جعل منظمات المجتمع المدني السوري للتهافت على دخول تلك المقار لجمع أكبر قدر من الوثائق التي يمكن الاستعانة بها كأساس لرفع دعاوى مستقبلاً فيما يتصل بجرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا أيام الأسد.
تمخض هذا النهج عن نتائج في الماضي، إذ في بداية الحرب السورية، ترك النظام مقاره الاستخبارية في المناطق التي سيطر عليها الثوار، فتمكن المركز السوري للعدالة والمساءلة من جمع 500 ألف صفحة من الوثائق وجدت في تلك المكاتب، فحفظها وحللها واستعان بها لرفع دعاوى ضد نظام الأسد في أوروبا والولايات المتحدة وأمام أنظمة قضائية أخرى، وذلك بحسب ما ذكره المدير القانوني للمنظمة روجر لو فيليبس.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أرسلت المنظمة فرقاً يترأسها سوريون حتى تدخل إلى الأبنية التي فتحت حديثاً وتصور أكبر عدد ممكن من الوثائق التي تعتبرها المنظمة بالغة الأهمية بحسب ما ذكره فيليبس. وبعض تلك المقار يخضع لحراسة مقاتلي الهيئة الذين سمحوا لمتطوعين يعملون في مجال حقوق الإنسان وفي الصحافة بدخولها خلال فترة من الفترات، ثم صاروا يمنعونهم من الدخول، في حين لم تخضع مقار أخرى لأي حراسة، وهذا ما يجعل الأدلة الموجودة فيها عرضة للتلف.
ضرورة حماية الأدلة من التلفيعلق فيليبس على ذلك بقوله: "عدنا إلى بعض الأماكن التي دخلنا إليها بعد يوم من دخولنا للمرة الأولى فاكتشفنا بأن المكان قد أحرق، إذ يحاول بعض الأفراد تدمير الوثائق ولعل هؤلاء من فلول نظام الأسد الذين يقلقهم وجود أدلة في تلك المقار".
شددت نورا وبكل صراحة على ضرورة حفظ الوثائق الحكومية وانتقدت الطريقة الخاطئة في التعامل مع الوثائق التي عثر عليها في السجون، لأن ذلك تسبب في عرقلة الجهود الساعية لمعرفة أماكن المفقودين، ونشرت خلال الشهر الماضي مقطع فيديو من سجن صيدنايا يظهر أشخاصاً وهم يدوسون على أكوام من الوثائق التي تناثرت فوق الأرضية، وطالبت السلطات والمنظمات الدولية بالتدخل. ومنذ ذلك الحين اتفقت منظمتها مع هيئة تحرير الشام وصارت تتعاون مع الحكومة المؤقتة على حفظ الوثائق التي بقيت إلى جانب مشاركتها مع المنظمات والهيئات الدولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وتعليقاً على ذلك، قالت نورا: "أهم خطوة الآن تتمثل بحماية الأدلة والوثائق والقبور الجماعية، ثم دراسة كل شيء، لأن هذه العملية يجب أن تكون طويلة الأمد حتى يتم تحقيق المحاسبة وإرساء العدالة".
"قطرة في بحر"كان السعي لتحقيق العدالة من المستحيلات في سوريا أيام حكم نظام الأسد، إذ أمام هيئة الأمم المتحدة، أحبطت روسيا حليفة الأسد محاولات عديدة لإحالة جرائم الحرب المرتكبة في سوريا إلى لاهاي من خلال حق النقض الذي تتمتع به روسيا في مجلس الأمن، ولذلك التفت المجتمع المدني السوري نحو الولاية القضائية العالمية لملاحقة مجرمي الحرب في محاكم أوروبا والمملكة المتحدة، كما أن الولاية القضائية العالمية الأميركية تبيح للحكومات أو المنظمات أو الأفراد رفع قضايا على أشخاص بسبب ارتكابهم لجرائم حرب وذلك ضمن النظام القضائي لأي دولة، حتى لو كانت الجرائم المرتكبة من اختصاص سلطة قضائية أخرى.
يعتبر النظام السوري والقوات الموالية له مسؤولة عن ارتكاب معظم الجرائم في سوريا، ولكن وبسبب عدم التمكن من الوصول إلى الأدلة والشهود، فإن معظم قضايا جرائم الحرب السورية التي رفعت في أوروبا وأميركا استهدفت جماعة تنظيم الدولة الإسلامية، وقد شارك المركز السوري للعدالة والمساءلة في نحو 100 قضية تتصل بالجرائم التي ارتكبت خلال الحرب السورية، وتابع 350 قضية تكشفت خيوطها في مختلف بقاع العالم، ولذلك يصفها فيليبس بأنها مجرد قطرة في بحر كبير.
حققت هذه الاستراتيجية بعض النجاح، إذ في عام 2022، حكم قاض في ألمانيا بالمؤبد على أنور رسلان، وهو ضابط مخابرات سوري سابق، وذلك بسبب إشرافه على عمليات التعذيب التي تعرض لها ما لا يقل عن أربعة آلاف شخص، وذلك بعد أن فر إلى أوروبا وطلب اللجوء فيها قبل أن يلقى القبض عليه في عام 2019.
وخلال شهر أيار الماضي، وبعد محاكمة غيابية، حكمت محكمة باريس على ثلاثة من كبار الضباط السوريين بالمؤبد بسبب ضلوعهم في تعذيب وقتل سوري يحمل الجنسية الفرنسية برفقة ابنه، واثنان منهما، وهما جميل حسن وعبد السلام محمود مطلوبان من السلطات الأميركية وذلك وفقاً لادعاء أعلنت عنه وزارة العدل الأميركية في كانون الأول الماضي والذي اتهم فيه هذان الشخصان بإدارة سجن سيئ الصيت بسبب التعذيب الممارس فيه، وذلك في مطار مزة العسكري بدمشق.
وفي فرنسا أيضاً، أصدرت النيابة العامة أمر اعتقال في عام 2023 بحق الأسد نفسه، والذي حصل اليوم على حق اللجوء في روسيا، وركزت هذه القضية على الهجمات بالأسلحة الكيماوية التي نفذت بموجب أوامر أصدرها الأسد على مدن سورية في الغوطة ومدينة دوما وذلك في آب من عام 2013، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص بحسب التقديرات، فيما تعرض مئات آخرون لإصابات، أدت إلى وفاة بعضهم فجأة في أثناء نومهم.
هزت تلك القضايا التي رفعت في أوروبا الشارع السوري من حيث مجال اختصاصها وما ركزت عليه، وأتاحت للناجين والشهود فرصة المشاركة في الدعاوى الجنائية، فتقدم كثيرون بشهادات مروعة خلال المحاكمات، وفي بعض الأحيان واجهوا الأشخاص الذين عذبوهم. إلا أن هذه القضايا ليست سوى تذكرة بمدى غياب فكرة المحاسبة على الانتهاكات عن النظام القضائي السوري طوال عقود من حكم آل الأسد.
تعقيباً على ذلك، يقول هادي الخطيب وهو أحد مؤسسي الأرشيف السوري الذي يحتفظ بقاعدة بيانات تعتبر مصدراً مفتوحاً يشتمل على ثلاثة ملايين فيديو يوثق جرائم الحرب في سوريا: "حالياً تلوح فرصة كبرى في سوريا، غير أن المحاسبة قد تشير إلى شيء مختلف تمام الاختلاف، إذ إنها لا تقتصر على ما يمكننا فعله في أوروبا أو في الولايات المتحدة"، فقد أمضى هادي هو ومنظمته السنوات العشر الماضية في جمع الصور والتحقق منها بموجب عملية فحص وتدقيق مضنية لكنها تساعد النيابة خارج سوريا على اعتماد تلك الصور كأساس لدعاوى جنائية، كان من بينها تلك الدعاوى النوعية التي رفعت في فرنسا وأمر الاعتقال الذي صدر بحق الأسد. ومنذ شهر كانون الأول الماضي، عندما بدأ اللاجئون السوريون بالعودة إلى وطنهم، بدأ هادي هو ومنظمته بالعمل على استراتيجية جديدة تتمحور حول كيفية جمع أدلة جديدة مع استعداد أعداد أكبر من الناس للتقدم بشكاوي عن الانتهاكات.
"العدالة الانتقالية أولوية"يخبرنا هادي الذي انتقل للعيش في ألمانيا منذ عام 2014 بأنه: "صار من الممكن الاستماع لشهادات مزيد من الشهود، كما صار بوسع مزيد من أهالي الضحايا والناجين مشاركتنا، وصار بوسعنا رفع دعاوى قضائية ضد أنواع أخرى من الجرائم التي ارتكبت".
يخبرنا حسام النحاس وهو طبيب وباحث سوري وعضو في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان بأنه يتمنى من النظام القضائي الجديد في سوريا أن يجعل من العدالة الانتقالية أولوية، وذلك عبر الاستعانة بالأدلة التي أمضى هو وغيره سنوات في جمعها، وكذلك بالاعتماد على الأدلة الجديدة التي ظهرت اليوم.
وهذا الطبيب يعتبر ناجياً من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، إذ خلال دراسته في كلية الطب، انضم إلى مجموعة من المتطوعين في مدينة حلب وهذه المجموعة عملت على معالجة وتطبيب المتظاهرين الذين خرجوا ضد الأسد وأصيبوا بعيار ناري أطلقه عليهم جيش النظام البائد خلال المظاهرات. وفي عام 2012، اعتقل النظام السابق ثلاثة من زملائه، وبعد يومين، عثر عليهما وقد فارقا الحياة وتركا على ناصية الطريق، بعد أن تعرضت جثة كل منهما لطلقات نارية ثم أحرقت. وبعد مرور بضعة أسابيع على ذلك، اعتقل حسام هو أيضاً وتعرض للتعذيب على يد ضباط في جيش النظام البائد، وهؤلاء الضباط استجوبوه وسألوه عمن يكون وعن أسماء غيره من الأطباء المشاركين في تلك المجموعة، كما سألوه عن الطريقة التي يحصل من خلالها على اللوازم والمعدات الطبية، ثم أفرج عنه بعد 16 يوم من التعذيب المتواصل.
وطوال فترة الحرب التي تلت تلك المرحلة، أخذ حسام يتنقل بين تركيا وسوريا، ليجري أبحاثاً حول الهجمات التي تعرضت لها المشافي والتي طالت العاملين في المجال الطبي، حيث وثق 608 هجمات استهدفت مرافق للرعاية الطبية وأسفرت عن مقتل 949 عاملاً في مجال الرعاية، ومعظم تلك الهجمات نفذها النظام السوري البائد أو القوات الموالية له، أو العساكر الروس المتحالفين معه. وكشفت الأبحاث والدراسات التي أجراها الدكتور حسام بأن العاملين في المجال الطبي الذين اعتقلهم النظام البائد بسبب تقديمهم للرعاية الطبية للجرحى أكثر عرضة للقتل بنسبة 400% مقارنة بغيرهم من العاملين في هذا المجال ممن اعتقلهم النظام لأسباب سياسية، وهذا ما دفعه إلى القول: "إذ ذلك يظهر بأن الأمر لم يكن عشوائياً، بل جزء من أسوأ استراتيجية في الكون، والتي تتمثل بالاستهداف المتعمد لمقدمي الرعاية الصحية".
يرى كل من حسام وهادي بأن عملية تحقيق العدالة في سوريا تحتاج لدعم من الهيئات والمنظمات الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة، ولكنهما أكدا على أهمية تولي السوريين لزمام هذه العملية، إذ يقول حسام: "إننا نعرف حجم الانتهاكات التي ارتكبت على أراضينا والألم الذي لا يوصف الذي سببته، والمعاناة التي لحقت بالشعب السوري والتي يعجز اللسان عن وصفها".
"لا بد من إرساء العدالة بأيد سورية"نظراً للطبيعة المعقدة للانتهاكات التي ارتكبت في سوريا، يعتقد حسام بأنه لايجوز لعملية المحاسبة أن تركز على النظام البائد فحسب، بل أيضاً إلى بقية أطراف النزاع، فقد اتهمت جماعات وفصائل أخرى بانتهاك القانون الدولي وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية والجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية التي تدير حالياً السجون الموجودة في شمال شرقي سوريا والتي يحتجز فيها مقاتلو تنظيم الدولة مع زوجاتهم وأطفالهم إلى أجل غير مسمى من دون أن يخضعوا لأي محاكمة، وهذا ما أثار استنكار المنظمات الحقوقية وعلى رأسها منظمة العفو الدولية.
يخبرنا هادي بأن أغلب السوريين أصيبوا بإحباط شديد بسبب خذلان المنظمات الدولية والدول الأخرى لهم بعد أن استغلت الحرب السورية لتحقيق مآربها السياسية، في الوقت الذي واصل النظام اعتقاله لآلاف المدنيين وقتلهم، ولذلك يقول هادي: "لهذا السبب أعتقد بأنه إن تمت عملية إرساء العدالة بأيد سورية وبطريقة سورية فإنها ستكون قائمة على المشاركة، وأرى أن ذلك من شأنه أن ينشر السلام على نطاق أوسع في البلد، كما سيؤدي إلى خلق مصالحة أكبر بين مختلف الجهات الفاعلة في سوريا، وإلا ستتحول هذه العملية إلى أداة سياسية تستخدم بين الأطراف الفاعلة المختلفة مما قد يزيد من حالة انعدام الاستقرار في البلد، أي أن العملية برمتها تتصل بنشر السلام بشكل دائم، والتأكد من إقرار الناس بما حدث والتحدث عن ذلك فيما بينهم، وحتى إن لم يحاكم أي أحد، سيتحول ذلك إلى سجل لما جرى مع ضمان عدم مشاركة المتورطين في الحكومة السورية الجديدة مرة أخرى".
وبمجرد أن تضع الحكومة الجديدة دستوراً للبلد وتقيم نظامها القضائي، ستبقى تساؤلات كثيرة تدور حول طريقة تحقيق العدالة، إذ قد تنظر الدولة السورية في فكرة تحولها إلى دولة عضو في نظام روما الأساسي، كما حدث مع حليفتها أوكرانيا، وهذا بدوره قد يفتح أمامها سبلاً للمحاكمة من خلال المحكمة الجنائية الدولية، إذ بدلاً من التوجه إلى مجلس الأمن حيث ينتظرها الفيتو الروسي، بوسع الدولة السورية أن تحيل القضية مباشرة إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب في لاهاي.
كما لم يتضح حتى الآن كيف سيكون شكل الملاحقة القضائية ضمن المنظومة القضائية السورية التي تتشكل حديثاً.
سوابق تاريخيةشارك فيليبس مع المركز السوري للعدالة والمساءلة بجهود كثيرة سابقة في مجال المحاسبة بعد سقوط أنظمة ديكتاتورية أخرى، إذ تعاون مع المحكمة الخاصة بكمبوديا التي أسست في عام 1977، والتي سعت لمحاسبة عناصر من الخمير الحمر بسبب ضلوعهم بارتكاب جرائم.
وبالحديث عن النظام القضائي السوري الذي سيؤسس في نهاية الأمر، يتساءل فيليبس: "ما نوع المحاكمات التي يتوقعون إجراءها؟ وهل ثمة مجال للمجتمع الدولي حتى يدعمهم أو للمجتمع المدني في المهجر الذي بقي يجمع الوثائق على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية حتى يدعمهم في ذلك عبر تزويدهم بالأدلة في حال تأسيس محكمة لمقاضاة المجرمين على جرائم الحرب التي ارتكبوها داخل سوريا؟"
ومن المحاكم المتخصصة بجرائم الحرب والتي أسست في بعض الدول عقب الحرب التي عصفت بها في التاريخ الحديث نذكر المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والتي تشكلت عقب مجزرة رواندا، والمحكمة الإقليمية في سيراليون، والتي أسست في عام 2002 عقب الحرب الأهلية التي قامت في سيراليون، والمحكمة الخاصة بسيراليون والتي ضمت قضاة من سيراليون وقضاة من دول إفريقية أخرى وشخصيات من كندا والمملكة المتحدة والتي تمكنت من إدانة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، لتكون تلك الإدانة الأولى من نوعها بحق رئيس دولة في إفريقيا.
"العدالة بعيون الرجل الأبيض"يعلق على ذلك المحامي الأميركي ديفيد كرين الذي أسهم في تأسيس محكمة سيراليون وترأس هيئة الادعاء فيها بإنه يمكن تشكيل محكمة مشابهة لمحكمة سيراليون في سوريا، ولقد شارك هذا الرجل في كتابة تقرير قيصر الذي كان له تأثير كبير على هيئة الأمم المتحدة في عام 2014، كونه سلط الضوء على الصور التي هربها مصور سوري سابق عمل لدى المخابرات وكان عمله يقوم على التقاط صور لجثث المعتقلين الذين عذبوا حتى الموت، ويخبرنا كرين بأنه مستعد لتقديم المساعدة في مجال تأسيس هذا النوع من المحاكم في سوريا، ويرجح لذلك أن يبدأ بقرار من الجمعية العمومية لدى الأمم المتحدة، لكنه نبه إلى وجوب تركيز هذه العملية على شكل العدالة التي يطمح الشعب السوري والدول العربية إلى تحقيقها.
ويعلق كرين على ذلك بقوله: "بصراحة، يميل القانون الجنائي الدولي إلى تمثيل العدالة بعيون الرجل الأبيض، أي أنه يتمحور حول العدالة من منظور أوروبي بحت"، فلقد أسس هذا الرجل المشروع السوري للمحاسبة في كلية الحقوق بجامعة سيراكيوز بنيويورك، ويتابع قائلاً: "إن القانون الجنائي الدولي ينظر إلى القانون من هذا المنظور، ولا ضير في ذلك، ولذلك ينبغي علينا أن نراعي الحساسية بشكل كبير"، وذكر بأنه يجب لأي عملية تقوم في هذا المضمار أن تعترف بالجراح التي خلفها الاستعمار الغربي في العالم العربي.
"أهالي الضحايا هم الأساس"تخبرنا المحامية نورا غازي بأن لديها انفتاح كبير تجاه التعاون مع الخبراء من مختلف أطياف المجتمع الدولي وذلك من أجل الإسهام في تحريك ملف العدالة في سوريا والعمل عليه، لكنها أكدت أيضاً بأنه لابد لهذه العملية من أن تركز على الناجين من جرائم الحرب، وهذا ما دفعها إلى القول: "أفضّل أن يترأس هذه العملية سوريون أيضاً، وألا تقتصر على منظمات المجتمع المدني السورية، بل أن يشارك فيها أهالي هؤلاء الضحايا لأنهم العنصر الأهم، لأن عليهم أن يقرروا ما يريدون، أما نحن فبوصفنا خبراء ومدافعين عن حقوق الإنسان ومنظمات مجتمع مدني، فيجب أن يقتصر دورنا على تلبية احتياجاتهم، كما ينبغي علينا أن نسعى لتحقيق مطالبهم".
مع مواصلة البحث عن مسار العدالة، مايزال السوريون يبحثون عن المفقودين بين الموتى، وماتزال نورا غازي تتمنى أن تتمكن من الوصول إلى رفات زوجها الذي فارق الحياة في سجون الأسد.
إذ في الداخل السوري، بدأت المقابر الجماعية تتكشف في مختلف أنحاء البلد، كما فتحت المشارح التي كان النظام يديرها، ما دفع أفراداً ومنظمات من المجتمع المدني السوري إلى المسارعة في استخراج تلك الجثث والبحث بين أكياس رفات الموتى على أمل التعرف إلى المفقودين وإبلاغ أهلهم بما حل بهم، واليوم تحذر نورا غازي ومنظمات المجتمع المدني من عمليات البحث السريعة لما قد تخلفه من أضرار على الأدلة التي قد تتلف من جراء تلك العملية، ولهذا تطالب الشعب السوري في الداخل بالحفاظ على تلك المواقع لحين توفر الفحص الجنائي وعمليات الحفر المتخصصة.
طوال السنين الماضية، تمكنت نورا من التأقلم مع خسارتها لزوجها باسل الصفدي، إذ قبل اعتقاله، كانا مخطوبين، ثم اعتقل قبل أسابيع معدودة من موعد زفافهما، وخلال زيارتين له في السجن، عقد باسل ونورا قرانهما، وذلك قبل عامين من إعدامه.
وبما أن نورا تعيش اليوم في فرنسا، فقد ذكرت بأنها مخطوبة اليوم لشخص آخر، بيد أن أحداث الشهر الماضي أعادتها لمرحلة الصدمة من جديد، وخلال الأسبوع الماضي، ذكرت بأنها صارت تعاني من صعوبة في النوم خلال الأيام القليلة الماضية، وحتى حينما تنام تنتابها الكوابيس، وبعد أن رأت كثيراً من المعتقلين السابقين الذين عادوا إلى أهلهم بعد أن ظنوا أنهم ماتوا، عاد إليها الأمل بأن يكون زوجها السابق حياً.
في الوقت الذي تواصل نورا مساعدة الأهالي في الوصول إلى أقاربهم المفقودين، مايزال كثيرون يحاولون التأكد من وفاة أقربائهم، أو استعادة جثامينهم تماماً كما تسعى نورا، إذ إن دفن المتوفين بالنسبة لأهالي المفقودين يعتبر الخطوة الأولى على طريق العدالة، وهذا ما جعل نورا تقول: "سأحارب حتى النهاية حتى أصل لرفات باسل ولرفات جميع المفقودين".
المصدر: The Intercept
إقرأ المزيد