تلفزيون سوريا - 1/14/2025 5:17:48 AM - GMT (+2 )
نظرا للارتباط السابق بين الشخصيات الأساسية في هيئة تحرير الشام، بما في ذلك مؤسسها أحمد الشرع، بتنظيم الدولة أولاً ثم بالقاعدة، أصبح لدى المجتمع الدولي، وخصوصا لدى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مخاوف مشروعة من احتمالية تحول سوريا إلى مركز للجهاد العالمي بعد سقوط نظام الأسد. ويعزز هذه المخاوف وجود آلاف المقاتلين الجهاديين الأجانب في صفوف الهيئة وفي التحالفات التي تقودها.
ومع ذلك، فإن البراغماتية التي أبدتها الهيئة في إدارة عمليات التحرير والحكم حتى الآن، بالإضافة إلى التقارير الاستخبارية التي تشير إلى صدق القطيعة مع التيار الجهادي العالمي – ولو في هذه المرحلة على الأقل – دفعت العديد من القوى الدولية المحورية إلى تبني نهج براغماتي مقابل، وإلى قبول التعامل مع الهيئة بصفتها الجهة الشرعية المسؤولة عن إدارة عملية التغيير في سوريا.
لكن التطبيع ورفع العقوبات الدولية بالكامل يتطلبان خطوات أكثر وضوحًا لبناء الثقة مع المجتمع الدولي، وخاصة مع الدول الغربية. ويتمثل ذلك في تقديم ضمانات مؤسسية ثابتة تؤكد القطيعة مع الفكر المتشدد والتيار الجهادي العالمي. ومن هنا تبلورت عند الدول الغربية رؤية تتمحور حول ضرورة دعم المطالبات المتعلقة بحماية حقوق المرأة والأقليات والتيارات العلمانية، باعتبارها المكونات الأكثر تعرضًا للاضطهاد في ظل أي حكم "إسلامي متشدد".
إن الحكومات الغربية تنظر إلى تعامل الهيئة مع بعض مكونات المجتمع السوري كمقياس حاسم لمصداقية التزامها بالنهج البراغماتي وقبولها بمبدأ الشراكة المدنية.
إذا نجحت الهيئة في الاستجابة لهذه المطالب بجدية وشفافية، وهي مطالب داخلية أساساً قبل أن تتبانها الدول الغربية، فإن ذلك سيعزز مصداقيتها داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وسيتخذ دليلاً على أن قطيعتها مع التيار الجهادي العالمي ليست مجرد خطوة تكتيكية بل خيار استراتيجي، خيار يتجلى أيضاً في القدرة على احتواء آلاف الجهاديين الأجانب ومنعهم من استخدام سوريا كقاعدة لانطلاق نشاطاتهم. كما ستدل هذه الخطوة على استعداد الهيئة للتعايش والتفاعل السلمي مع التيارات السياسية الأخرى في المجتمع، من خلال التحول إلى حزب سياسي محافظ قادر على خوض انتخابات ديمقراطية وقبول نتائجها والالتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة.
لا يمكن اعتبار الموقف الغربي المطالب بكل هذا أمراً مشينًا أو غير منطقي؛ فهو موقف ينبع من اعتبارات أمنية بحتة، ولا يتأثر بشكل ملحوظ بأي ضغوط تمارسها جماعات سورية أو منظمات دولية، كما يدعي البعض. إن الحكومات الغربية تنظر إلى تعامل الهيئة مع بعض مكونات المجتمع السوري كمقياس حاسم لمصداقية التزامها بالنهج البراغماتي وقبولها بمبدأ الشراكة المدنية.
لذا، من الضروري أن تعجل الهيئة بتوضيح مواقفها من القضايا الحساسة المرتبطة بالعلاقة مع هذه المكونات إذا أرادت للعقوبات أن ترفع بأسرع وقت. وإذا كانت صياغة دستور جديد قد تستغرق سنوات، فإن ذلك لا يمنع الهيئة، بصفتها الجهة المسؤولة حاليًا عن إدارة الدولة في هذه المرحلة الحرجة، من استباق الأمور وإصدار بيان واضح يلتزم بمبادئ الدولة المدنية، واحترام خصوصيات وحقوق جميع المواطنين، بمن فيهم أولئك الذين لا يتبنون "المرجعية الإسلامية" في فكرهم.
سيكون لإعلان كهذا وقعه الإيجابي عند معظم الجهات الدولية المعنية بالعقوبات، مما سيؤدي إلى تكثيف الجهود المبذولة لرفعها كلية، وسيتيح فرصًا للحصول على استثناءات خاصة تسمح بتمويل المراحل المبكرة لإعادة الإعمار، على غرار القرار الذي اتخذته الإدارة الأميركية مؤخراً.
لكن يبدو أن تبني مفهوم الدولة المدنية ما يزال يمثل إشكالية داخل صفوف الهيئة ومعظم الفصائل ذات الإيديولوجية الإسلامية، سواء المتحالفة معها أو المنفصلة عنها. وقد يتطلب الوصول إلى توافق داخلي واضح وقتا أطول، مما سيسهم في تأخير القرارات الدولية برفع العقوبات، وسيتحمل جميع السوريين تبعات هذا التأخير دون استثناء.
مع ذلك، قد يكون التأخير مقبولاً إذا تم التوصل إلى التوافق المرجو في ختام المطاف، وامتنع التيار الإسلامي في هذه الأثناء عن إلقاء اللوم فيما يتعلق بهذا الوضع على الدول الغربية، أو على الأقليات والتيارات العلمانية، فهذا تصرف غير ناضج، وسيعمق الهوة بين مكونات المجتمع السوري، وقد يؤدي إلى فرض حالة جديدة من العزلة على البلد على الصعيد الدولي، إن عاجلاً أم آجلاً.
لقد ثار معظم السوريين من أجل بناء دولة ديمقراطية مدنية، تكفل حقوق جميع مواطنيها، بمن فيهم أصحاب "الطرح الإسلامي"، في إطار لا يعادي التيارات الأخرى ولا يهمش أي مكون اجتماعي، ولنا في تجربة إعلان دمشق وأصحابها خير دليل على إمكانية التوصل إلى صيغة مناسبة بين كل الأطراف.
وإذا كان النصر قد تحقق مؤخراً على أيدي "الإسلاميين"، فهذا لا يلغي نضال التيارات الأخرى وتضحياتهم، فالحكم في عصرنا الحديث ليس غنيمة حرب تنفرد الفئة الغالبة بتقرير طبيعته ومرجعيته وشكله، ويتحاصص قادتها فيما بينهم على المكاسب والمناصب، من منطلق "من يحرر يقرر" فالحكم في هذا العصر تكليف وليس تشريفاً أو جائزة أو وصاية، بل مسؤولية أمام المجتمع بكل ما فيه من مكونات وأطياف وفئات.
ولا ننسى في هذا الصدد أن المرحلة الأسدية في تاريخنا ابتدأت بالانقلاب "التصحيحي،" وعقلية "من يصحح يقرر" إذا جاز التعبير. لقد آن الأوان لنا اليوم لنكسر هذا القالب الفكري الذي ما بوسعه إلا أن يمهد الطريق نحو الاستبداد.
ويتطلب العمل في المجال العام التعامل باحترام وقبول مع المسائلة الشعبية من ناحية، والدولية من ناحية أخرى، لدواع جيوسياسية وأمنية واقتصادية نابعة عن طبيعة النظام الدولي السائد. إذ لا مجال في الواقع لا للشرعية المطلقة، ولا للسيادة المطلقة، وستبقى علاقة الحكومات مع بعضها ومع القوى والشرائح المختلفة في الداخل والخارج مقيدة بمجموعة من الضوابط التي لا مفر من الالتزام بها.
ولقد تبين عبر الأسابيع الماضية أن القوى المحورية في المجتمع الدولي على أتم استعداد للاعتراف بشرعية التغيير في سوريا، وشرعية مشاركة هيئة تحرير الشام في قيادة العملية الانتقالية، لكن وفق شروط تحقق طموحات ومصالح السوريين قبل غيرهم، وتسهم في احتواء المخاوف الأمنية لهذه القوى. لا مبرر في هذه الحال للتأخير والتسويف في التجاوب مع هذه الشروط.
وباختصار، إذا أردنا للعقوبات المفروضة على سوريا أن ترفع بشكل دائم وبأسرع وقت، على الجهات المسؤولة في سوريا أن تتبنى طرح الدولة المدنية بشكل دائم وبأسرع وقت أيضاً.
إقرأ المزيد