سوريا الهشّة في مهبّ الريح
تلفزيون سوريا -

لم يدافع أحد عن سوريا، كل الذين تقاتلوا على جسدها لم يتقاتلوا دفاعاً عنها كما ادّعوا، بل تقاتلوا على أحقّية امتلاكها، واليوم كما الأمس، يُستبدل الطامعون، فيغيب طامع ليحل طامع آخر محله.

أيضاً، لم يدافع معظم المواطنين السوريين عنها، فهم لا يرون سوريا إلا بدلالة من يحكمها، وليس بدلالة كونها وطناً لكل السوريين، وعندما يتقاتل الآخرون عليها فإن الذين يريدون العيش ببساطة اللقمة والكرامة، ينتظرون انتصار القوة والأقوى، معتقدين أنهم في حيادهم هذا إنما يحمون لقمتهم والقليل من هامش الحياة والكرامة.

وهكذا، في مسلسل صراعات القوي والأقوى، وفي استمرار انتهاج سياسة انتظار القوي، ومحاباته، خسروا لقمتهم وقليل حياتهم وكرامتهم، والأدهى أنهم اليوم أمام احتمال خسارة وطنهم.

وفي الخضوع لهذا التحكّم لا بدّ من الخوف، فالخوف وحده يصنع الفرد الخاضع، القابل للتشكّل كما يُراد له، وباستمرار الخوف والخضوع يمكن التأسيس لوعي فردي يرى في الخضوع قيمة كبرى..

وكما في كل النظم المستبدّة، لا بد من ركيزتين أساسيتين لقيام الاستبداد: القدرة على قمع المجتمع، واستسلام المجتمع لهذا القمع.

في القدرة على قمع المجتمع، لا بد من امتلاك القدرة على التحكّم بما يشكّل أساسيات الحياة فيه، بدءاً من لقمة الخبز، وانتهاء بالمقدسات التي تشكّل البعد الرئيسي في وجدانه، وفي الخضوع لهذا التحكّم لا بدّ من الخوف، فالخوف وحده يصنع الفرد الخاضع، القابل للتشكّل كما يُراد له، وباستمرار الخوف والخضوع يمكن التأسيس لوعي فردي يرى في الخضوع قيمة كبرى، ويرى في الوعي الرافض للخضوع خطيئة كبرى.

في معادلة نشوء الاستبداد لا بد من تغييب الحوار، فالحوار يفترض بداهة وجود أطراف مختلفة، والاستبداد لا يعترف بوجود أطراف مختلفة، لهذا يُغيّب الحوار.

والتناقض الذي يعيشه الفرد بينه في حال وعيه لدوره، وبين الجهل المجتمعي المتمثل بقدسية التشابه التام، يصبح  دور المثقف أو الفرد بلا أهمية، ويصبح المجتمع كتلة خرساء، لا تملك قراراً، ولا إرادة، فالأمر كله لوليّ الأمر، للراعي المقدس، الممسك بأسباب الحياة، أو بمعناها.

أولُّ حقائق الاستبداد أنّه يهدر القيمة الأهم الأساسية للحياة، وهي قيمة الكرامة الإنسانية، التي تعبّر عن وجودها بحقّ الحرية والاختيار، وبحقّ العدالة والمساواة، وترى في العلاقة المتكافئة مع الآخر شرطاً أساسياً للتشارك، وهو -أي الاستبداد- لا يهدر قيمة الحياة الأهم وحسب، بل ينمّي من جهة أخرى نزعة التفرد بالرأي، وامتهان حقوق الآخرين، وفرض الرأي، وإلغاء المشاركة، وتجاوز العمل المؤسساتي إلى العمل الفردي.

عند انهيار السلطة المستبدة يحدث ما يشبه الضياع في المجتمع، والمجتمع الذي تعوّد على وجود طاغٍ مستبدّ يتحكّم به ويقوده سيشعر بالعجز عند غياب هذا المستبدّ، وعندما يظهر مستبدٌّ جديد فإن أوّل ما يفعله مجتمع الخضوع هو مبايعة المستبدّ الجديد، أو البحث عن مستبدّ آخر، المشكلة الأخطر من كل هذا هو العنف المدمّر الذي ينفجر داخل المجتمع في معادلة المفاضلة بين مستبدّ وآخر، وهذا ما يفسر تعلّق البعض بطغاة سابقين، فـ"صدام حسين" ما يزال حلماً لقسم من العراقيين، وكذلك "حافظ الأسد"، رغم كونهما وجهين لاستبداد متوحش أسس لدمار بلدين عريقين هما العراق وسوريا.

اليوم ليس من السهل القول: إن سوريا التي تشهد مخاضاً بالغ التعقيد سوف تخرج من معادلة الاستبداد تلك، ويخوض السوريون معارك فيما بينهم بحثاً عن استبداد ديني أو عسكري يوكلون له مهمة سحق المختلفين معهم في المجتمع، لكأنّ معركتهم التي دفعوا فيها أثماناً باهظة لم تكن للتخلص من الاستبداد، بل كانت لاستبدال استبداد باستبداد آخر!.

المفارقة اليوم التي قد تقود سوريا إلى التقسيم أو التقاسم، إنما تتجلى بعجز القوى الداخلية فيها -وهي المدمّرة- أن تنتج استبداداً قوياً بما يكفي للسيطرة عليها، فجميع أطرافها منهكة، ولا بد من الاستقواء بالخارج، وبالتالي فإنّ الخارج هو مَن سيقرّر أي استبداد أقدر على تلبية مصالحه، وفي حال تضاربت مصالح أطراف الخارج فنحن أمام احتمالين أحلاهما شديد المرارة، فإما أن تترك سوريا في وضعها الراهن بانتظار توافق مصالح الآخرين، أو أن تتقاسمها هذه الأطراف.

لماذا لم يذهب السوريون إلى خيار التشارك والبحث عن خلاصهم بأنفسهم، وإنتاج الصيغ المناسبة لهم في إدارة مصيرهم، ولماذا تتعمق انقساماتهم، ولماذا يعززون عوامل الانقسام فيما بينهم بدلاً عن تعزيز ما يجمعهم؟

من نافل القول تكرار دور عصابة الأسد في تمزيق النسيج الاجتماعي السوري، لكن بسقوط هذه العصابة وانهيارها فإنه من المفترض أن تكون الطريق لعلاقة جديدة بين السوريين قد أصبحت سالكة، فما الذي يمنع من قيامها؟

أخطر ما يهدد سوريا القادمة هو الانقسام المجتمعي الحادّ، وهو رغم تفاصيله المعقدة فإنه قابل للحلّ فيما لو توفرت النوايا الصادقة لحلّه، لكن الاستثمار فيه من عدة أطراف هو ما يجعل منه عقبة كبيرة، بعبارة واضحة إن استثمار الإسلام السياسي، واستثمار أطراف خارجية، في المأساة السورية التي تسببت بها عائلة الأسد يمهد لنتائج خطيرة تهدّد وحدة سوريا، وصيغة وجودها، فسوريا لا يمكن أن تحكم بصيغة دينية، والإصرار على هذه الصيغة هو إصرار على تفتيت سوريا، إن لم يكن اليوم فغداً.

في حال أردنا أن ننقذ سوريا، أن ندعو لتشكيل فريق سوري مختص ومحايد، يقوم بتوثيق الجرائم المرتكبة وتحديد مرتكبيها، وتوجيه التّهم لهم ومن ثم محاكمتهم..

أيضاً ما يهدّد سوريا ولا يقل خطورة عن سابقه، هو طمس معالم الجريمة البشعة التي ارتكبت طوال خمسة عقود بحق السوريين، وعدم محاسبة مرتكبيها الحقيقيين، واللجوء إلى الغموض وتحميل الجريمة على غير مرتكبيها هو جريمة أخرى تعزز من تشظي السوريين، ومن المهم جداً هنا الإشارة إلى أمر مقلق جداً هو استسهال اتّهام جهة ما، والتجاهل المتعمد لجهات أخرى، هذا يدفع للتخوف من نية جهات ما، بالدفع باتجاه إشعال صراع داخلي يكون مقدمة لتدخل خارجي.

يمكن اليوم، في حال أردنا أن ننقذ سوريا، أن ندعو لتشكيل فريق سوري مختص ومحايد، يقوم بتوثيق الجرائم المرتكبة وتحديد مرتكبيها، وتوجيه التّهم لهم ومن ثم محاكمتهم، لا سيما أن الوثائق والأدلة أصبحت متاحة لنا للسلطة السورية الراهنة، فلماذا يبقى الغموض هو السائد.

إذا كانت العدالة الانتقالية مدخلاً لا بد منه لتعافي سوريا القادمة، فإن التوظيف السياسي لها سيكون الكارثة التي قد تودي بسوريا.



إقرأ المزيد