تلفزيون سوريا - 1/14/2025 5:19:58 AM - GMT (+2 )
ما من شك بأن السقوط المباغت لنظام الأسد نتيجة لعملية (ردع العدوان 27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول)، قد باغت السوريين بسيل من التساؤلات التي أعقبتها مواقف متباينة ما تزال تتراوح بين الاستغراق في نشوة الظفر وبين التوجس ممّا يجري والريبة ممّا ستؤول إليه الأمور.
إلّا أن هذه الحالة الغائمة ربما تشمل شريحة من السوريين، بالتأكيد ليست هي الأكثرية، ولكنها الشريحة التي تدّعي التماهي الكامل مع الشأن العام كما تنسب إلى نفسها مسؤولية التفكير بل ربما الوصاية على عملية التغيير الوطني، ونعني بهذه الشريحة مجمل الناشطين السياسيين والمثقفين إضافة إلى مجمل الأطر السياسية من أحزاب وتيارات، أضف إلى ذلك الجهات التي تنضوي تحت مسمى ( منظمات المجتمع المدني).
بين رغيف الخبز وشكل نظام الحكم:وفي مقابل هذه الشريحة ثمة جمهور واسع من السوريين ربما لا تؤرقه تلك الأسئلة والهواجس التي تؤرق فئة السياسيين والناشطين والمثقفين، بل هو لا يزال متفاعلاً بجميع مدركاته مع الحدث السوري العظيم لكن بروح يعتريها كثير من الانتعاش والأمل، مع طغيان للحظة الفرح على الرغم من البؤس الشديد والمزمن الذي أطبق على حياة السوريين طوال سنوات خلت.
فضلاً عن المعاناة الكبيرة التي واجهتها هذه الفئات من الناحية المعيشية، إلى درجة بات فيها الحصول على ربطة الخبز همّاً وجودياً، فإن ثمة حالةً فظيعة من الإذلال كانت تمارسها الجهات الأمنية والميليشيات الطائفية الموالية للأسد، والتي جعلت من حياة المواطنين ديمومة نمطية من الرعب والإحساس الشديد بالقهر..
فسكّان المخيمات الذين يمكن أن يكونوا هم الأكثر معاناة ومكابدة، والذين كانوا -ربما- قبل انطلاق معركة ( ردع العدوان) بأيام قليلة، منهمكين بالتفكير بكيفية الحصول على الحدّ الأدنى من وسائل التدفئة، بل ربما انشغل اكثرهم بمدى قدرة الخيمة التي يستظل بها على الصمود أمام شتاء آخر بدأ يطرق الأبواب، فلا شك أن هؤلاء يخالجهم شعور بأنهم هم المعنيون بهذا النصر.
يمكن ملاحظة ذلك من خلال مبادرة كثيرين منهم لزيارة بيوتهم بعد تحرير مدنهم وبلداتهم بساعات فقط، رغم حالة الدمار التي خلّفتها قوات الأسد البائد، ذلك أن العودة إلى الديار بالتزامن مع سقوط الأسد إنما تعني -للنازحين- تجسيداً حسّياً ومعنوياً لنصر عظيم هم جديرون به، وربما ينسحب الأمر ذاته على فئات غفيرة من المواطنين السوريين ممّن يعيشون داخل المدن والمناطق التي كانت تسيطر عليها قوات الأسد.
ففضلاً عن المعاناة الكبيرة التي واجهتها هذه الفئات من الناحية المعيشية، إلى درجة بات فيها الحصول على ربطة الخبز همّاً وجودياً، فإن ثمة حالةً فظيعة من الإذلال كانت تمارسها الجهات الأمنية والميليشيات الطائفية الموالية للأسد، والتي جعلت من حياة المواطنين ديمومة نمطية من الرعب والإحساس الشديد بالقهر، ولعل المرء لا يستغرب إن وجد أحوال هؤلاء بسقوط نظام الأسد كحال من استطاع بعد نضال مرير أن يزيح عن صدره صخرةً كانت كالكابوس الخانق، وبدأ يتنسّم شميم الحرية التي غابت عنه طوال عقود.
ولا يمكن للمرء أن يتجاهل من هم أكثر الناس غبطةً بهذا الحدث الجلل، ونعني المعتقلين (من بقي حياً منهم) وقد وجدوا أنفسهم أحراراً خارج أسوار السجن، بعد أن عجزت كل حكومات العالم والمنظمات الإنسانية والحقوقية عن إجبار نظام الأسد على إخلاء سبيلهم والإفصاح عن مصير المغيبين والمفقودين.
ما هو مؤكّد أن هذه الفئات المجتمعية من السوريين لا تشاطر الفئة الأولى (النخبوية) في التفكير والهواجس والشواغل الأخرى، بل ربما لا ينتظر الجمهور العام من نخبه السياسية والثقافية الكثير، ليس لأنهم على نقيض منهم من حيث التعطّش إلى الحرية والعيش الكريم، بل لأن نخب السوريين لم تدّخر بحوزتها الرصيد الكبير الذي من شأنه إقناع عموم الجمهور العام.
فعلى المستوى الرسمي انتهى مسعى الإئتلاف وهيئة التفاوض إلى لجنة دستورية عديمة المُنتَج، وعلى المستوى غير الرسمي لم تتمكّن آلاف المسمّيات من القوى والأحزاب على اختلاف توجهاتها من الالتقاء حتى تحت مظلة واحدة ولو كانت فضفاضة، وانتهى مسعاها إلى صدور بيانات شبه نمطية تطالب بتطبيق القرار 2254 وتستجدي تواقيع الآخرين، ثم تُوزّع على وسائل التواصل لمدّة أيام وينتهي مفعولها، ويمكن الذهاب إلى ان هذه الشريحة من الناشطين والساسة هي الأكثر توجّساً وتردّداً في التعاطي مع النصر السوري الكبير.
لكي يكون المنجز الثوري أساساً للبناء:ثمة أحقية لكلا الطرفين أن يمضي إلى ما يراه صحيحاً، فمن حق الجمهور العام أن يستثمر لحظات النشوة والإحساس بالخلاص من الطغيان وكابوس الرعب المزمن منذ سنوات طويلة، ومن حقه أن تكون فرحته العارمة عاملاً معزّزاً للتفاؤل والنظر إلى المستقبل بقلوب تتلهّف إلى مزيد من الكرامة، كما من حق النخب السورية أن ترتاب وتتوجّس ولا تسمح للحظات الفرح المباغتة أن تجعلها تسلّم بما تقرره السلطات الجديدة، كما من حقها إبداء الرأي ونقد سلوك الحاكم وعدم الركون إلى خطاب السلطة بثقة مطلقة.
ولكن أيّاً كانت فجوة الاختلاف بين الشعور الشعبي العام وبين نخبه وساسته ومثقفيه، فإنهما يتساويان في مسألة مهمّة، وهي أن ما حدث في النتيجة (السقوط المدوّي لنظام الأسد) لم يكن نتيجة لخيارٍ أو مبادرة أيٍّ منهما، بل جاء بمبادرة لفصيل عسكري (هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى) وهذه المبادرة العسكرية التي أطاحت بنظام الأسد جاءت انتصاراً للقضية السورية التي تكوّنت ونمت واكتملت من تضحيات جميع السوريين وبكافة أشكال نضالاتهم عبر عقود من الزمن، وبعيداً عن الأحكام المطلقة في تقييم تلك التجربة التحرّرية، فإنه يمكن الوقوف عند ثلاثة أمور لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها:
- أولاً: الإطاحة بنظام الأسد بالقوة بأيدي سورية اختزلت على السوريين سنوات أخرى من المأساة، لا أحد يدري إلى متى ستمتد، وأزاحت الوهم الذي سيطر على أذهان كثيرين من السوريين وغير السوريين بأن رأس النظام البائد كان من الممكن إزالته عن طريق التفاوض أو الحوار أو أي طريقة أخرى غير القوة.
- ثانياً: زوال نظام الأسد بمعركة عسكرية من دون إراقة مزيد من الدماء وبالسلاسة التي شهدناها، ربما فاق توقعات أكثر المتفائلين من السوريين.
- ثالثاً: خروج المعتقلين من سجون الأسد بحدّ ذاته منجز عظيم، وذلك على الرغم من الغصة والمرارة التي انتابت الآلاف من أهالي المفقودين أو ممّن قضوا تحت التعذيب.
- رابعاً: زوال نسبي لشبح التقسيم الذي بات يظن كثيرون أنه سيكون مفتاح الخلاص لمأساة السوريين.
المنجزات الأربع المذكورة آنفا وحدها -على أهميتها- ليست حصانة كافية ودائمة لفعل التغيير الذي ينشده السوريون، ولا يمكن أن تكون حصانة للفريق الحاكم الجديد من أي نقد أو اعتراض أو تقويم، بل ربما تجسّد أساساً متيناً للبناء عليه، باعتبارها مُنجَزاً وطنياً تتقاطع حوله معظم تطلعات السوريين.
بل ربما يمكن الذهاب إلى أن هذه المنجزات الأربعة هي ما ينبغي أن يوجب على السوريين التمسّك بتجربتهم التحررية هذه، والحفاظ عليها والدفاع عنها بكل قوّة، باعتبارها ثمرة لنضال وتضحيات جميع السوريين وليست مُنتجاً أحادياً، وهذا ما يوجب نقدها ومراجعتها على الدوام، دون محاباة مجانية ودون ترف الرفض لأجل الرفض فحسب.
إقرأ المزيد