تلفزيون سوريا - 2/14/2025 9:21:35 AM - GMT (+2 )

"رسالة إلى رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع" عنوانٌ ألفناه في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل؛ رسائل مرئيّة، وأخرى صوتية، وأحيانا بالصوت والصورة كما في رسالة المذيعة رائدة وقاف التي ناشدت فيها باكية رئيس الجمهورية لمعرفة الجهة التي اعتقلت أخيها اللواء في جيش النظام المخلوع.
تتنوع رسائل السوريين الموجهة إلى الرئيس السوري، وتتغير أغراضها، منها ما هو بوح ومناجاة، ومنها ما هو نقد متحامل و"أستذة"، وبعضها نصائح بصبغة مثالية بعيدة عن تعقيدات الواقع، وأكثرها مطالبات برفع مظالم، ومجمل هذه الرسائل تذكرنا بأدب الرسائل الذي أحدثت ثورة الاتصالات عليه تغيرات في الشكل وفي المضمون.
كثافة هذه الرسائل وتنوعها في فضاءات وسائل التواصل يثير عدة أسئلة، منها: لماذا يلجأ الناس بتجويد الخطاب وكتابة رسائل مليئة بالعواطف؟
التكنولوجيا وأدب الرسائلرسائل اليوم جافة مباشرة لا تتضمن نبض الروح، ولهيب المشاعر، كما هو حال رسائل قبل ثورة الاتصالات التي خففت حدة الاغتراب الذي كان يعانيه الإنسان.
كانت زيارات الأقارب سابقا، تحتم عليهم المبيت عند أقاربهم ليوم أو يومين بسبب صعوبة التنقل بين القرى والبلدات، أما اليوم فإن اتصال الفيديو قد يغني عن الزيارة الفيزيائية، سهولة وسائل النقل اليوم جعلت الزيارة لا تدوم إلا بضع ساعات، واختفت عادات كثيرة متعلقة بالضيافة.
بالمقابل إيقاع الحياة السريع ومتطلباتها المتجددة قلصت مساحات التأمل والتفكير للإنسان المعاصر، حتى على مستوى السوشال ميديا أصبح الفيديو والمقال الطويل أقل متابعة في فضاءات التواصل، فالعالم يتجه للسرعة والاختزال والانتشار السريع.
ضريبة عالم الأفكارولا غرابة أن تذكرنا رسائل السوريين التي بغالبها ذات محتوى سياسي بأدب الرسائل الذي نشأ من دواوين الدولة، فكان ديوان الرسائل بمثابة وزارة الخارجية والإعلام في عصرنا، وهكذا خرج أدب الرسائل من مخبر الدولة والسلطة ليكون أدبا يستهوي الفلاسفة، والأدباء، فصدرت رسائل الجاحظ، ورسائل ابن المقفع، ورسائل ابن عربي، رسائل إخوان الصفا، وغيرها...
رسائل السوريين الكثيفة اليوم إلى أحمد الشرع تعيدني إلى رسالة شبه يتيمة وجهت "من السوري إبراهيم الجبين إلى السوري بشار الأسد" بعد خمس سنوات من توليه رئاسة البلاد، مع الفروقات الكثيرة بين الشخصيتين وإرث كل منهما.
كثافة الرسائل اليوم تعود إلى سقف الحرية المرتفع، إذ لا خوف من مخاطبة رئيس الجمهورية ولكن بالوقت نفسه لا توجد قنوات رسمية أو لم تتبلور بعد ولذلك يلجأ الناس إلى "الناشطين" الإعلاميين أو مخاطبة الرئيس عبر وسائل التواصل
كانت رسالة الجبين رسالة أدبية لثائر يطالب بحقوق شعبه الأساسية، وجاءت في ظل حكم شمولي وأجهزة أمنية معروفة بممارساتها السادية.
بينما رسائل السوريين اليوم هي رسائل في إطار حرية غير مسبوقة انتزعها السوريون بدماء أبنائهم، والأهم من كل ذلك، من هو المخاطب، ما هي إمكانياته؟
فبشار الأسد، ورث السلطة وأجهزتها الأمنية، ووسائل إعلامها وجيشها، وقضائها، ومؤسسات الدولة، إضافة إلى امتلاك عقول وقلوب شريحة واسعة من مواليه آنذاك. ناهيك عن امتلاكه أموالا ضخمة؛ أموال الفساد، والنفط، والمعونات الأممية للشعب السوري التي تسطو عليها منظومة فساده لتغدو معدومة الأثر على الشعب السوري فلا تخفف من بؤسه وشقائه.
بينما الرئيس الحالي لا يمتلك كل هذا، لديه شعب مهجّر خارج البلاد، تشبّع بالحرية والنقد، وتعوّد على مستوى عالٍ من خدمات الدولة ومرافقها، وشعب لا يزال تحت الخيم وعيونه تنظر إلى بيوته المهدمة.
كما ويحمل -الرئيس الحالي- على كاهله تركة الماضي، من عقوبات ورثها عن الأسد الفار، وتصنيفات تشمله وهيئته على قوائم الإرهاب.
العبء الأكبر -باعتقادي- يتمثل في ضريبة عالم الأفكار التي لا تزال تسكن عقول شريحة من حاضنته الشعبية، خصوصا عناصر تنظيمه المُنحل هيكلياً "هيئة تحرير الشام" الذي تشكل عبر صيرورة تاريخية مرت بمنعطفات كثيرة بدءا من السلفية الجهادية وصولا إلى الجهادية المحلية.
القفزات النوعية في وعي الشرع واستيعابه لمتطلبات البوصلة الدولية، والحاجات الداخلية قد لا يتزامن مع رفاق دربه في الجهاد والثورة وإدارة الحكم بنفس الدرجة والوتيرة.
رسالة الجبين: رسالة اكتئاب أم نبوءة ثورة؟تضمنت رسالة الروائي والإعلامي إبراهيم الجبين لمسات أدبية بديعة محملة بمشاعر رجل مكتئب، ثائر قبل ثورة السوريين بالـ2011، استخدم فيها المنظور الثاني، السائد في أدب الرسائل، وهو المنظور الذي يستخدم فيه الراوي ضمير المخاطب "أنت" ليخاطب شخصا بعينه، وتعمد أن يخلع عنه صفته الرسمية ليسميه مجازا "ابن البلد"، كما حدد الجبين دافعه للكتابة، وكأنه يكتب رواية، لا رسالة؛ رواية هو بطلها ليخاطب خصما صامتا، أو أن الجبين ارتأى أن يسكته في أثناء سرد الحكاية- الرسالة، "الاكتئاب حقيقة هو ما يدفعني إلى كتابة هذا المقال-الرسالة"، ليطلعه على حجم توقعات السوريين وثقل ميراثه "سوريا تتوقع الكثير من رئيسها الشاب الذي يأخذ دوره المثير والأكثر غرابة في التاريخ ربما حين يرث هموماً ومعادلات معقدة".
من مميزات المنظور الثاني غير المستخدم كثيرا في الرواية أنه يدخل عقل وقلب الشخصية الأخرى ويتوقع ما يدور فيه، لذلك نجد أن الكاتب يقفز إلى رأس المخاطب ويتنبأ ما يدور فيه عند قراءة هذا السطر أو هذه الفكرة، "أعتقد أنك تفكر الآن في ثقل ما ورثته".
وظل الكاتب طيلة الرسالة يخاطب "ابن البلد" باعتبار كل مؤسسات الدولة تعود ملكيتها إليه "إدارتكم، أجهزتكم... الخ"، كتوصيف لواقع الحال حينذاك، ليخلص إلى أن استمرار الأمور بهذا الشكل الهزلي مستحيلة "هل تعتقد يا ابن البلد، أن الأمور يمكن أن تستمر هكذا؟ وفق هذا الإيقاع البطيء وغير المفهوم؟"، وليبرهن له أن تأجيج الطائفية وعودة الناس لمكونات ما قبل الدولة كالطائفة والعشيرة والعرق سببه الرئيسي "المنع الذي تعرضت له حركة السوريين طيلة تلك العقود".
ثم يؤكد له أن "الاكتئاب الذي أعيشه يدفعني إلى محاورتك (من طرف واحد) اليوم"، وفي ذلك إشارة إلى أن أبواب السلطة مغلقة في وجه الناس، وأن السلطة صماء لا تسمع، فالحوارات معها من طرف واحد مثل رسالة الجبين.
وهنا تظهر لنا أسباب كثافة رسائل السوريين اليوم للشرع، وانعدامها للأسد في بداية حكمه، ففي عصر الأسد أبواب القنوات الرسمية مغلقة في وجه الناس، يضاف إلى ذلك أنهم لا يجرؤون على مخاطبته عبر الوسائل المفتوحة، حتى الجبين يبدي هذه المخاوف المحقة، ويصرح بها "قد ألاحق من قبل أحد أجهزة إدارتكم بعد هذا المقال، وقد يسعون إلى محاكمتي بتهمة إساءة مخاطبة الرئيس".
أما الآن، فكثافة الرسائل تعود إلى سقف الحرية المرتفع، إذ لا خوف من مخاطبة رئيس الجمهورية، لكن بالوقت نفسه، لا يوجد قنوات رسمية، أو لم تتبلور بعد، لذلك يلجأ الناس إلى "الناشطين" الإعلاميين أو مخاطبة الرئيس عبر وسائل التواصل، فهذا هو الخيار الوحيد المتاح.
رسالة الجبين في بدايات وراثة بشار الأسد للحكم في سوريا، والذي خاطبه بابن البلد، تقابلها رسالة لأدونيس إلى بشار الأسد في بدايات الثورة السورية بعنوان "رسالة مفتوحة إلى الرئيس بشار الأسد - الإنسان، حقوقه وحرياته، أو الهاوية"، والتي خاطبه فيها بـ "السيد الرئيس" والتي تشبه إلى حد كبير ورقة "تقدير موقف" التي تقدمها مراكز الأبحاث لصاحب القرار لشرح ما يبدو أنه غائب عنه أو ما ظن أدونيس أنه "مُغيب" عنه!
إقرأ المزيد