تلفزيون سوريا - 2/14/2025 10:58:49 AM - GMT (+2 )

فتحت التصريحات السورية الرسمية، مؤخراً، الباب واسعًا أمام مناقشة مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا، والمتمثل حالياً بقاعدتين (جوية في حميميم، وبحرية في طرطوس) تمنحان روسيا نفوذاً في الشرق الأوسط.
واتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره السوري أحمد الشرع يوم الأربعاء الماضي. وقالت الرئاسة السورية إن الشرع أكد العلاقات الاستراتيجية الوطيدة بين البلدين وانفتاح سوريا على كل الأطراف بما يخدم مصالح الشعب السوري. كما أكد بوتين دعمه لوحدة الأراضي السورية وسيادتها واستقرارها.
وإثر الاتصال، انتشرت وثيقة - لم يتمكن تلفزيون سوريا من التأكد من صحتها - تفيد بأن طائرات شحن تحمل أطنانًا من العملة السورية المطبوعة في روسيا ستحط في مطار دمشق الدولي يوم الجمعة، وذلك في ظل أزمة سيولة تعانيها سوريا إثر توقف إمدادات النقد الورقي، الذي تولت موسكو مهمة طباعته منذ عام 2012.
وفي 6 من شباط الحالي، أجرى وزير الدفاع السوري مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، أبدى خلالها استعداداً للسماح لموسكو بالاحتفاظ بالقاعدتين المقامتين على سواحل المتوسط، ضمن اتفاق مع "الكرملين" يخدم المصالح السورية.
الوزير السوري أشار إلى "تحسن كبير" في موقف روسيا تجاه الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، موضحاً أن روسيا كانت خصماً رئيسياً خلال سنوات الحرب بعد تدخلها منذ عام 2015 لدعم نظام بشار الأسد وجيشه، موقعة آلاف القتلى والجرحى من المدنيين في آلاف الغارات التي شنتها على المدن والبنى التحتية في المدن التي كانت تسيطر عليها المعارضة (الحكومة حاليًا).
هذه التطورات تأتي بالتوازي مع تمسك موسكو الواضح بالقاعدتين الروسيتين، ما تعكسه تصريحات متواصلة تحمل طابع "الغزل الدبلوماسي" من موسكو إلى دمشق، إذ أبدى نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، في 11 من شباط، استعداد بلاده مواصلة تقديم المساعدات للسوريين، معتبراً أن تغيّر القيادة في سوريا لا يغيّر نهج روسيا الأساسي، مع مواصلة التأكيد على دعم سيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها.
كما أن "الصداقة" بين روسيا وسوريا تعرضت للاختبار عبر الزمن، ولا تعتمد على وضع سياسي، بحسب ما قاله مندوب موسكو في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، الاثنين الماضي.
دمشق من جانبها، تتلقى التصريحات الروسية وتقابلها بإيجابية، فخلال مقابلته مع وكالة "نوفوستي" الروسية في 4 من شباط، اعتبر وزير الداخلية السوري، علي كده، أن التعاون مع روسيا يخدم المصلحة السورية، وأن العلاقة مع موسكو اليوم، تختلف عما كانت عليه، مع الإشارة لمفاوضات جارية بين الطرفين حول مستقبل القاعدتين الروسيتين، قد تظهر نتائجها قريبًا.
وبعد سقوط نظام الأسد بشار الأسد وهروبه إلى موسكو في 8 من كانون الأول 2024، أكدت موسكو على لسان بوغدانوف، أن العلاقة مع دمشق من أولويات سياستها الخارجية، وهو ما عكسته إلى جانب التصريحات السياسية من مختلف المستويات، زيارة روسية رسمية إلى دمشق في 28 من كانون الثاني الماضي، عبر وفد ضم بوغدانوف، ومبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف.
وتركزت مباحثات الوفد الروسي مع الرئيس السوري أحمد الشرع، على احترام السيادة السورية وتأكيد روسيا دعمها التغيرات الإيجابية في سوريا، بالإضافة إلى مناقشة آليات العدالة الانتقالية وتشديد دمشق على وجوب معالجة أخطاء الماضي وإعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، عبر تدابير مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.
"وجود" لا "قواعد"وتعليقًا على هذه الزيارة، قالت وكالة "بلومبيرغ" الأمريكية، إن روسيا تواجه صعوبات في الحفاظ على قاعدتيها في سوريا، موضحة أن الأنشطة الروسية في "حميميم" جرى تقليصها، مع الإبقاء على سفينتين للنقل تنتظران أسابيع قبل السماح برسوّهما في القاعدة البحرية في "طرطوس" لإزالة معدات عسكرية (سبارتا 1 وسبارتا 2).
وقد أظهر تحليل صور أجرته "هيئة الإذاعة البريطانية" (BBC) بعد يومين من الزيارة الروسية، سحب روسيا جزء من عتاد قاعدتها البحرية في طرطوس، شمل مركبات وحاويات.
المستشار السوري المقرب من دوائر صنع القرار في موسكو، رامي الشاعر، فضّل عدم استخدام مصطلح "قواعد روسية" في سوريا، واستبداله بـ"الوجود العسكري الروسي"، مبيناً أن مطار "حميميم" استوعب مقاتلات من سلاح الجو الروسي، وطائرات نقل لتأمين احتياجات القطاعات الموجودة للجيش الروسي والشرطة العسكرية الروسية، التي كانت مهتمها مؤخرًا الحفاظ على التهدئة.
وفيما يخص استخدام الميناء على ساحل طرطوس، فاستخدامه لوجستي، وجرى التفاهم عليه قبل 2011، وهو ليس قاعدة عسكرية بحرية روسية، بل مركز لتأمين احتياجات أسطول البحرية الروسية في البحر المتوسط، ومن خلاله يتحرك الروس إلى المحيطات، وهو بحاجة للتزويد بخدمات ومواد مثل الصيانة ومياه الشرب، ومركز لاستبدال الطاقم الأسطولي، ففي سوريا كان هناك دائمًا حضور محدود من خبراء ومدربين روس، والسلاح لدى النظام السابق كان روسياً، وفق الشاعر الذي اعتبر أن روسيا لا تطمح لإقامة قواعد عسكرية خارج حدودها، وليس لديها مخططات من هذا النوع.
ومع انحسار الحضور العسكري الروسي في سوريا ضمن نقطتين، إثر سقوط نظام الأسد، يرى الشاعر أنه لم يعد هناك حاجة للوجود العسكري الروسي بالحجم الذي كان عليه، سيما مع تراجع خطر حدوث حرب أهلية، وخطر تنظيمات كانت صُنّفت "إرهابية"، كما أن مختلف الأطراف تفكر بطرق وأساليب للتخلص من الوضع السابق غير المقبول بسبب تعنت النظام السابق وممارساته.
"الوجود العسكري الروسي سيتم تحديد حجمه ووضعه بحسب ما تقرر القيادة السورية الجديدة، وهي من تقرر حاجتها أو عدمها للمساعدة العسكرية الروسية "، أضاف رامي الشاعر في تصريح لموقع تلفزيون سوريا، مشيرًا إلى رغبة مشتركة بين الطرفين باستمرار التعاون بشتى المجالات، ومنها العسكري، واعتبر أن القيادة السورية الحالية لن تسمح لأي طرف بالتدخل في شؤونها الداخلية ومع من تتعاون.
ويرى المستشار رامي الشاعر أن الأهم بالنسبة للسوريين التركيز على مستقبل سوريا، لا على مصير روسيا في سوريا، معتبرًا أن تخطي العقبات نحو علاقات طبيعية مع دمشق لا يقع على عاتق موسكو، فالقيادة السورية هي من تقرر كيفية الحفاظ على علاقة سياسية مع دولة عظمى كروسيا، وفق قوله.
فقدان سيطرة تدريجي"روسيا بسياستها والخطوات التي اتبعتها من إخراج الفصائل المسلحة من حول دمشق ونقلهم إلى الشمال السوري وانتهاءً بإخراج الأسد، أنقذت سوريا من حرب واقتتال سوري- سوري واسع، وبما يخص تسليم الأسد والتعويضات لبناء الثقة مع الشعب السوري، وحضور روسيا في الشرق الأوسط، تبقى قضايا يجب النظر إليها بشكل أكثر واقعية ومنطقية وفلسفية".
رامي الشاعر- مستشار مقرب من دوائر صنع القرار في موسكو
في تقريره الصادر 27 من كانون الثاني الماضي، ذكر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي "INSS" أن استئجار روسيا لقاعدة "حميميم" وقاعدة "طرطوس" البحرية، منح روسيا موطئ قدم في حوض البحر المتوسط، ومركزًا لوجستيًا للعمليات في مناطق أبعد، وخاصة في إفريقيا.
وأشار التقرير إلى أن موسكو تفقد قدرتها تدريجيًا على استخدام البنية التحتية لميناء "طوطوس"، مع انتظار سفينتين روسيتين لأسابيع قبل السماح برسوّهما، بالإضافة إلى إلغاء اتفاق موقع مع شركة روسية لإدارة وتشغيل المرفأ، الشهر الماضي، وفق ما نقلته وكالة "رويترز".
وبلا سيطرة كاملة على مواقع الهبوط والرسوّ على ساحل المتوسط السوري، ستكافح روسيا للحفاظ على طرق الشحن الحيوية اللازمة لدعم عملياتها في أفريقيا، ويتفاقم هذا التحدي بسبب الأزمة اللوجستية المستمرة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، والعقوبات الغربية، وإغلاق المجال الجوي من قبل الدول الغربية، والقيود المفروضة على حركة الملاحة البحرية عبر المضائق التركية، وفق "INSS".
الخبير في مجلس الشؤون الدولية الروسي، ديمتري بريجع، أوضح أن القاعدتين الروسيتين في سوريا ركيزة لنفوذ موسكو العسكري والسياسي في الشرق الأوسط، ما يعني أنها ستتمسك بشدة ببقائهما، مع إدراكها أهمية تقديم ما يقنع دمشق في هذا الإطار، سيما بعد ما قال إنها "إتهامات تطاردها بدعم النظام السابق شخصيًا".
وبرأي الخبير الروسي، فيمكن لموسكو عرض حزمة حوافز لضمان إبرام اتفاق يتيح لها الاحتفاظ بقواعدها، كدعم إعادة الإعمار وتخفيف تبعات العقوبات، وتقديم دعم اقتصادي وتقني ضمن حدود القدرة الروسية التي لا تزال تحت ضغوط وعقوبات غربية.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع طلب من موسكو تسليم بشار الأسد، وهو ما رفض "الكرملين" التعليق عليه.
وتعليقًا على تأكيد موسكو مواصلة الحوار مع دمشق، يرى الخبير الروسي أن الاستعداد الروسي للإسهام في إعادة الإعمار قد يكون أحد أهم الأوراق التفاوضية المطروحة لروسيا مع سوريا، لاسيما أن انخراطها في شؤون سوريا ما بعد الحرب يجنبها مخاطر الإقصاء عن تسوية يُراد لها أن تتم تحت أنظار دولية وأوروبية.
واعتبر بريجع أن موسكو لن تقدم تنازلات عميقة تؤثر على نفوذها الاستراتيجي في سوريا، خصوصًا أن بعض الأصوات الأوروبية تطالب بإقصائها تماماً عن أي حل مستقبلي، ما يدفعها للتمسك بالحضور العسكري وضمان دورها الوازن في مفاوضات المرحلة القادمة، فموسكو ترغب بالحفاظ على موطئ قدم عسكري لا غنى عنه في شرق المتوسط، ومن جهة أخرى تعي ضرورة تهدئة الشارع السوري وإثبات حسن النية، تفاديًا لخسارة مكاسبها السياسية في ظل الضغوط الغربية المطالبة بإبعادها.
"روسيا توازن بين حاجتها الاستراتيجية للاحتفاظ بقواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس، وبين الضغوط السياسية والدبلوماسية التي تفرضها قوى إقليمية ودولية تسعى لإقصائها عن مسار التسوية في سوريا"، أضاف بريجع، موضحًا أن موسكو تدرك أن مصير حضورها لا يتوقف على اتفاق رسمي بقدر ما هو مرهون بقدرة القيادة السورية الجديدة على ضبط الجغرافيا السورية وإدارة ملفات ما بعد الحرب، بما في ذلك مسألة تسليم رموز النظام السابق أو محاسبتهم ضمن عملية عدالة انتقالية.
وفي هذا السياق، تقرأ موسكو احتياجات الإدارة السورية الجديدة على مستويين، يرتبط الأول بضرورة استعادة ثقة الشارع السوري، ما قد يتطلب إجراءات جريئة مثل تسليم الأسد وتقديم تعويضات عن سنوات الصراع، وهنا تلوح موسكو بورقة إعادة الإعمار ورفع أجزاء من العقوبات الاقتصادية، باعتبار أن هذه الحوافز قد تعزز قبول الشارع للوجود الروسي، وتبرهن أن دعم موسكو لم يكن شخصيًا بل مؤسساتيًا.
كما أن هناك بعدًا أمنيًا عسكريًا مرتبط بتنامي خطر الخلايا المسلحة والفصائل المشتتة، وهنا يأتي دور الاستخبارات الروسية في التنسيق مع أجهزة الأمن السورية الجديدة لجمع معلومات ميدانية دقيقة، ورصد تحركات أي مجموعات قد تهدد الاستقرار، ويكتسب هذا التنسيق أهمية مضاعفة في ضوء الاضطراب الراهن، ورغبة الغرب بتقليل نفوذ موسكو، ما يجعل روسيا حريصةً على إظهار فعاليتها الأمنية والعسكرية للحفاظ على موطئ قدمها في الشرق الأوسط، وفق الخبير الروسي.
"مقايضات مرنة"يسعى "الكرملين" إلى مقايضات ذات طبيعة مرنة، تقوم على منح دمشق مساحات تفاوضية أوسع مع المجتمع الدولي، مقابل إضفاء شرعية على الوجود العسكري الروسي، فكلما زاد الانفتاح على المطالب السورية أصبح موقف موسكو أقوى أمام الدول التي ترغب بإضعافها أو فرض تنازلات موجعة عليها.
وبرأي الخبير الروسي، فلن تصل موسكو إلى حد التخلي التام عن موطئ قدمها العسكري أو قبول إبعادٍ كاملٍ عن العمليات الدبلوماسية لإعادة رسم خريطة النفوذ في سوريا، إذ تدرك أن الانخراط الأوروبي في ملف إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي قد يغري دمشق بالاقتراب من الغرب بما يضعف الدور الروسي، لذا تحاول عبر قنوات استخبارية ودبلوماسية موازية، ضمان أن تبقى سوريا جزءاً من المجال الحيوي الروسي، من خلال تزويد دمشق بخدمات استشارية اقتصادية وأمنية، وتقديم وعود طويلة الأمد بدمج سوريا في مشروعات إقليمية مشتركة، بما يحقق حداً مقبولاً من التوازن بين حاجات دمشق لدعم مالي دولي، ورغبة موسكو في الاحتفاظ بنفوذها العسكري والسياسي.
وإلى جانب الرغبة بشراكة في إعادة الإعمار وإدخال الشركات الروسية على الخط فإن بعدًا عسكرياً لهذه الخطوة يتمثل في الاستفادة من القاعدتين العسكريتين لتعزيز حضورها في شرق المتوسط، وخلق توازن جديد في التنافس الدولي مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ قد تنظر موسكو إلى القاعدتين كضمان لسلامة مصالحها في سوريا وأداة للانطلاق نحو ممرات استراتيجية تربطها بقارة إفريقيا والعالم العربي، ما يعكس رغبة روسية قديمة في استعادة المكانة التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ذكر "معهد دراسات الحرب الأمريكي" في 8 من كانون الأول 2024 (يوم سقوط الأسد)، أن الانهيار السريع لنظام الأسد في سوريا يمثل هزيمة سياسية استراتيجية لموسكو، وقد ألقى بالكرملين في أزمة، حيث يسعى إلى الاحتفاظ بقاعدتيه العسكريتين في سوريا، لدعم جهود موسكو الأوسع نطاقًا في إبراز قوتها في المتوسط والبحر الأحمر، وتهديد الجناح الجنوبي لحلف "الناتو" وزيادة بصمتها في الشرق الأوسط وإفريقيا.
وفي أيلول 2015، دخلت موسكو إلى سوريا ودعمت نظام بشار الأسد ضد الثورة السورية، وكانت فاتورة هذا التدخل أكثر من 100 ألف طلعة جوية روسية في سماء سوريا، وتجريب ما لا يقل عن 359 سلاحًا روسياً ضمن ظروف قتالية في سوريا، وآلاف القتلى من المدنيين ودمار واسع في البنى التحتية، كفاتورة لهذه الطلعات التي جرّبت السلاح الروسي فوق رؤوس السوريين.
كل هذه المعطيات تضع العلاقات المستقبلية مع موسكو على مسار تفاوض لا تغفل فيه دمشق وجود مصالح قديمة واستراتيجية لها مع روسيا، وهو ما قاله الرئيس السوري، أحمد الشرع في وقت سابق، وأكّده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف.
إقرأ المزيد