موقع الحل السوري الأخباري - 5/18/2025 5:06:26 PM - GMT (+2 )
ثمة فرصة سياسية ثمينة أمام السلطة الانتقالية في سوريا، لا سيما بعد الانفتاح المشروط للغرب، تحديدا فرنسا، فضلا عن الوساطة السعودية التي نجحت في حلحلة ملف العقوبات وإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفعها.
والفرصة تتمثل في مواجهة المعوقات التي تحول دون الاستقرار بينما تقوض البنى السياسية والمجتمعية. ومع تصاعد تهديدات “داعش”، تبدو هناك ضرورة قصوى وملحة لجهة استدارة الرئيس الذي يقود المرحلة الانتقالية أحمد الشرع وحكومته، نحو وضع أسس جديدة وسليمة للحكم والإدارة السياسية كما الأمنية في البلاد، تتمثل في جملة اعتبارات، منها توسيع قاعدة المشاركة في الحكم والتمثيل السياسي، بما يضمن تواجد المكونات كافة.
مرتكزات مواجهة “داعش”ومع تحقيق العدالة السياسية في المرحلة الانتقالية، وتنتفي الشبهات الانتقامية والثأرية والطائفية من الأطراف المتفلتة بسلاحها غير الشرعي، وإنهاء الميلشياوية، كحالة أمنية وسياسية، سوف يكون من الممكن استكمال حوار سياسي ومجتمعي مع الأطياف المختلفة، يهدف إلى التوافق وإقرار شكل للتسوية السياسية، فضلا عن تصور سوريا الجديدة، وذلك بما لا يسمح ببيئة تتحول بفعل سياسات الإقصاء والتشدد والعنف إلى أن تكون جيوب وحواضن لتنظيمات إرهابية مثل “داعش”.
من الضروري الانفتاح والتنسيق مع القوى السورية الأخرى، وخاصة تلك التي بمقدورها الاصطفاف لمواجهة مخاطر هذا التنظيم وخلاياه وحواضنه، مثل قوات سوريا الديمقراطية، بغية مواجهة الخطر المشترك، ودمجها ضمن إطار الدولة الجديدة.
تشكل هذه المرتكزات قاعدة صلبة تتماسك في مواجهة القوى الداعشية التي تتموضع في البادية السورية منذ فترة ليست بالقليلة، بغرض تقوية استعادة التنظيم لقدراته، وتنظيم صفوفه، وتقوية هياكله، وكذا تحديد ورسم خططه استعدادا لتنفيذها.
ومن دون استراتيجية شاملة تأخذ بعين الاعتبار السياسي والأمني مع التنموي والاجتماعي والأخير بأبعاده الطائفية وإدارة التنوع في سوريا ليس على أساس المحاصصة، لن تكون هناك قدرة على تصفية تهديدات “داعش”. فهم ليسوا مجرد أفراد، إنما أيدولوجيا لها دينامياتها وقادرة على التخفي والكمون ثم الظهور مرة أخرى، واكتساب صفة الانتشار بفعل جاهزية قواعدها و”ذئابها المنفردة”، وبطبيعة الحال، تبحث فقط عن الظروف المواتية للخروج علانية وتحقيق أهدافها ومواجهة خصومها.
بالتالي، يتعين على البيئة السياسية أن تتحرر من ميراث “البعث” وكل محاولات إعادة التاريخ للوراء وتكرار نسخة جديدة أو استعادة فصل آخر مماثل، حيث يضحى بديل الديكتاتورية بشقها القومي هو الحكم الديني المؤدلج والمسيس بحمولته الطائفية المتشددة، كما فعل بشار الأسد بإخراج عناصر الجهاديين من السجون ودعشنة “الثورة السورية” لتكون بعد ذلك حجة لممارسة جرائمه لتصفية الحراك المدني بسلميته وشعاراته الليبرالية والعلمانية، فضلا عن تخويف قطاعات من المجتمع، لا سيما الأقليات.
إنهاء هذا النمط من الحكم يحلحل بالضرورة كل مصادر الشرعية التي تتغذى عليها القوى المتطرفة والمسلحة مثل “داعش”. من ثم، السلطة الانتقالية، بحاجة إلى فتح المجال العام للحرية وتدشين الديمقراطية، والقطيعة مع عقود من القمع والسياسات الأمنية العسكريتارية تحت وطأة سياسة الحزب الواحد.
عملية أمنية حديثة ضد “داعش”ولهذا، لم يكن مباغتا احتدام المواجهة بين ين قوى الأمن العام السوري وخلية لتنظيم “داعش” الإرهابي، في غضون أيام قليلة من حث واشنطن والغرب، الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، على الانخراط في التحالف الدولي للقضاء على “داعش”، واندلعت رحى الصراع بين الطرفين في حي الجزماتي بمنطقة جبل الحيدارية، شرق مدينة حلب شمال سوريا. إذ بدأت الأحداث على خلفية قيام العناصر الإرهابية بتوجيه النار ضد أحد مقرات الأمن العام.
لكن ورغم إعلان “وزارة الداخلية السورية” عن إحباط خلية من “داعش” في مدينة حلب، يوم السبت الفائت، ومقتل عنصر أمني خلال الاشتباك، فإن هذه العمليات تبقى استجابة جزئية لخطر أوسع، يتطلب معالجة أعمق من مجرد المداهمات الموضعية.
العملية الأمنية التي أدت إلى “تحييد” ثلاثة عناصر من التنظيم واعتقال أربعة آخرين، وضبط عبوات ناسفة وستر مفخخة، تؤكد أن التنظيم لا يزال موجودا ويمتلك القدرة على التخطيط والتمويه داخل المدن الكبرى.
وبالتالي، يمكن القول إن هذه الأوضاع المربكة التي يتعمدها التنظيم الإرهابي في تلك اللحظة، تؤشر إلى أهمية تفكيك العوامل المختلفة التي تمنح التنظيم الإرهابي فرصة للتواجد والانتشار وفرض سلطة أمر واقع بتهديداته.
وإلى جانب الخطط والاستراتيجيات الشاملة، هناك ضرورة لوقف السيولة والفوضى الأمنية ومنها تلك الهجمات التي لها صفة طائفية دموية وانتقامية كالتي حدثت بحق الدروز وقبلهم العلويين. فالسلاح المتفلت والعناصر الميلشياوية وخفض الدولة لمسؤوليتها تجاه كل ذلك، سيكون بمثابة إغراءات لـ”داعش” لمد نفوذه وتقوية دوره والتغلغل بالمجتمع.
الفراغ الأمني.. أرض خصبة لعودة “داعش”مع سقوط نظام بشار الأسد أواخر العام الفائت، شهدت الساحة السورية تغيرات جذرية لم تُحدث فقط فراغا سياسيا، بل فاقمت الوضع الأمني، الذي شهد جملة من التحديات، أبرزها، مؤخرا، عودة “داعش” وتصاعده ميدانيا، بما يؤكد أنه يتحين الفرصة لإعادة ترتيب صفوفه والانقضاض على المشهد من جديد.
ربما، ما تمر به سوريا ليس طارئا أو جديدا، بل له مماثل في ذاكرة الفترات التاريخية التي شهدت تحولات (ثورية) كبرى وراديكالية، حيث تتولد مناطق رخوة أمنيا، وتتشكل جيوب يمكن للتنظيمات المتطرفة التتسلل منها.
والنقطة الأساسية التي تلح عليها التجارب كافة، أن تنظيم “داعش” كما غيره من التنظيمات الأيدولوجية المتشددة، لم يُهزم أيديولوجيا إنما هزيمته تتمثل في انحساره أو إضعافه جزئيا وشل قدراته الحركية والتنظيمية مرحليا، كما حدث في إنهاء دولة الخلافة المزعومة والتي حكمت أجزاء شاسعة من سوريا والعراق، الأمر الذي انتهى بالقضاء نهائيا عليه في الباغوز آخر معاقله على يد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
غير أن واقع الحال يكشف عن توغل وتوسع نفوذ “داعش” في مناطق أخرى من العالم وبخاصة في آسيا وإفريقيا، فضلا عن كمونه بالبادية السورية.
وقد حذّر مسؤولون في الأمم المتحدة والولايات المتحدة، في نيسان/أبريل الماضي، من أن التنظيم أظهر نشاطا متجددا في سوريا، مستقطبا مقاتلين جددا، وزاد من وتيرة هجماته، في محاولة لاستغلال مرحلة ما بعد الأسد لتحرير السجناء واستعادة القدرة على التخطيط وتنفيذ الهجمات.
معسكرات الاعتقال كقوة بشرية نائمة لـ”داعش”من بين أبرز المخاطر التي تواجهها سوريا اليوم، إمكانية قيام “داعش” بمحاولات جديدة لتحرير آلاف من مقاتليه المتمرسين المحتجزين في سجون شمال وشرق البلاد، والتي تشرف عليها “قسد” بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” أشار إلى أن التنظيم قد يركّز جهوده على استهداف هذه السجون بالتزامن مع انشغال القوى المحلية والدولية في مرحلة الانتقال السياسي، ما يهدد بإعادة ضخّ قوة بشرية جديدة في شرايين التنظيم.
كما أن عودة “داعش” الخطيرة ستقوض ما بدا فرصة نادرة في سوريا للتغلب على “ديكتاتورية وحشية”. وقد تمتد تداعيات ذلك إلى نطاق أوسع، مما يؤدي إلى انتشار عدم الاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد استخدم “داعش” سوريا سابقا كقاعدة للتخطيط لهجمات ضد جيرانها، وحتى في أوروبا.
المشهد السياسي الجديد يحمل فرصا وتحديات. الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي تحول مفاجئ، أعلن من الرياض رفع العقوبات المفروضة على سوريا، ودعا رئيس الشرع، إلى خطوات جريئة، من بينها التعاون مع واشنطن لمنع عودة “داعش”، وتحمّل مسؤولية إدارة مراكز احتجاز عناصره.
وفي هذا الإطار، يعمل المسؤولون الأميركيون والسوريون منذ سقوط نظام الأسد على مواجهة التنظيم، مع تركيز الجهود على المناطق الواقعة خارج شمال شرق البلاد، والتي تسيطر عليها “قسد” ذات القيادة الكُردية. وهنا يقول تقرير حديث لـ”معهد واشنطن” لسياسات الشرق الأدنى، إنه في المستقبل، ينبغي للطرفين بحث أنجع السبل لدمج “قسد” وهيئاتها المدنية ضمن إطار الحكومة الجديدة، بما يضمن طمأنة الأكراد بشأن دورهم ومكانتهم في سوريا المستقبل.
كما يُنتظر من واشنطن أن تنبّه إلى ضرورة تجنّب احتكار الشرع للسلطة، وضمان مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها الأمنية والإدارية، ضمن إطار دولة سورية موحدة.
ومن الضروري أيضا وضع جدول زمني واضح لتسلُّم دمشق مسؤولية مرافق احتجاز عناصر “داعش” وأسرهم، إلى جانب إدراج قضايا التمويل والتدريب في صلب النقاشات، بالتنسيق مع الشركاء الأوروبيين في “التحالف الدولي” لمحاربة التنظيم.
المطلوب من سلطة دمشقأمام السلطة الجديدة في دمشق، بقيادة أحمد الشرع، مسؤوليات ضخمة وهائلة، تتطلب مقاربة متكاملة، لا أمنية فقط، بل خطة وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب، تشمل ملاحقة الخلايا النائمة، خصوصا في البادية السورية، التي لطالما شكلت ملاذا آمنا للتنظيم.
ومن الضروري الانفتاح والتنسيق مع القوى السورية الأخرى، وخاصة تلك التي بمقدورها الاصطفاف لمواجهة مخاطر هذا التنظيم وخلاياه وحواضنه، مثل قوات سوريا الديمقراطية، بغية مواجهة الخطر المشترك، ودمجها ضمن إطار الدولة الجديد. ثم تعزيز التعاون الاستخباراتي مع دول الجوار، لا سيما العراق، الذي راكم خبرة ميدانية في ملاحقة التنظيم ومراقبة تحركاته عبر الحدود.
وبطبيعة الحال، تحقيق توافق سياسي داخلي، يحصّن البلاد من الفوضى ويمنع أي فراغ قد يُستغل لإعادة تدوير “داعش” لنفسه. كما سيؤدي إلى إفشال أي محاولات توظيف خارجية للتنظيم لإرباك المشهد السياسي والأمني داخل سوريا، خاصة بعد بيان “داعش” ضد أحمد الشرع والذي حمل عنوان “على عتبة ترامب”، وقد بدا فيه حجم الامتعاض الأيديولوجي للتنظيم من التحول السياسي الجاري في سوريا، لا سيما بعد لقاء الشرع بالرئيس الأميركي ترامب. كما أن بيان “داعش” يدلل على أنه لا يزال تنظيما نشطا من حيث التعبئة والتحريض، ويواصل تصوير أي مشروع سياسي بديل عنه كخيانة عظمى للإسلام، كما حرض في افتتاحيته في صحيفة “النبأ” التابعة له، “الجهاديين الأجانب” على التوبة والعودة للالتحاق بـ”السرايا المنتشرة في الأرياف والأطراف”، في إشارة صريحة إلى تحرك ميداني محتمل.
في المحصلة، عودة “داعش” إلى المشهد السوري ليست فرضية بعيدة، بل خطر واقعي يتزايد مع كل يوم يتأخر فيه تأسيس منظومة أمنية وسياسية متكاملة ومتينة في سوريا الجديدة. وبين التحديات الداخلية والرهانات الدولية، فإن اختبار قدرة سلطة دمشق بقيادة الشرع على منع عودة تنظيم “داعش” الإرهابي قد يكون أحد أعقد وأخطر الاختبارات التي ستحدد ملامح مستقبل البلاد.
إقرأ المزيد