عنب بلدي - 12/14/2025 1:40:24 PM - GMT (+2 )
عنب بلدي – محمد كاخي
تبدو سوريا اليوم بين مسارين يتحركان بسرعتين مختلفتين، محاكمات طالت متهمين بارتكاب انتهاكات خلال أحداث الساحل في آذار الماضي، ومسار أبطأ تعمل عليه الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية متمثلًا بصياغة قانون للعدالة الانتقالية في سوريا لمحاسبة مجرمي الحرب المرتبطين بالنظام السوري السابق، وجبر الضرر وتعويض الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية.
وبين التوقعات الشعبية وبناء الأطر القانونية، تتقاطع الآراء حول الحاجة إلى معايير موضوعية تُبعد البلاد عن منطق التطهير الوظيفي الجماعي، وتضمن استمرار كفاءة عمل المؤسسات العامة، بالإضافة إلى ضمان أن يأخذ مسار العدالة الانتقالية مجراه في تطهير هذه المؤسسات من موظفين شاركوا في أعمال إجرامية مرتبطة بالنظام السوري السابق.
رؤية العدالة الانتقالية في تطهير مؤسسات الدولةشهدت مؤسسات الدولة السورية خلال الأشهر التي أعقبت سقوط نظام الأسد موجة تسريح “غير مسبوقة”، اتخذت طابعًا جماعيًا وسريعًا واتجهت حكومة تسيير الأعمال حينها إلى إجراءات فصل واسعة صدرت “بصورة تعسفية ومختصرة”، شملت آلاف العاملين والعاملات في مختلف قطاعات الدولة، بحسب تحقيق لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”.
وشملت خطة “إعادة هيكلة الاقتصاد ومكافحة البطالة المقنّعة” شطب أكثر من 300 ألف وظيفة حكومية، بحسب التحقيق، واتخذت عمليات التسريح ثلاث صيغ رئيسة: عدم تجديد العقود السنوية، إنهاء الخدمة الفوري دون إنذار أو مبرر، دفع آلاف الموظفين إلى إجازات قسرية مدفوعة قبل فصلهم بأثر رجعي.
وفي 27 من آب الماضي، أصدرت الأمانة العامة للرئاسة السورية قرارًا موجهًا إلى جميع الجهات العامة، أبلغت بموجبه العاملين بانتهاء الإجازة المأجورة الممنوحة لهم والعودة للعمل أصولًا اعتبارا من 1 من أيلول الماضي، وعدم تجديد العقود المؤقتة.
يرى الباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله، أن عملية التفحص الوظيفي للموظفين في القطاع العام تمثل أداة مركزية لإعادة بناء المؤسسات السورية بعد عقود من الفساد والانتهاكات.
وتقوم هذه الآليات على فحص سجلات الموظفين ومدى ارتباطهم بالجرائم الكبرى أو الفساد أو دعم النظام السابق، بهدف إخراج من يثبت تورطه من المؤسسات الجديدة التي تحتاج إلى ثقافة مؤسسية مختلفة.
لكن العبد الله يحذّر من الانجرار نحو سياسة التطهير الجماعي، ويؤكد أنه لا بد من الاعتماد على معايير موضوعية لتحديد من يشملهم التفحّص، مثل: الارتباط بالأجهزة الأمنية، إعداد تقارير بحق الزملاء، الفساد المالي الكبير، جني الثروة على حساب معاناة المواطنين، وألا تبقى الآلية مركّزة فقط على قضية الانتماء إلى حزب “البعث” في سوريا، باعتباره كان انتماء مفروضًا على النسبة العظمى من الموظفين.
كذلك هناك معيار الفساد الإداري، أي توزيع الوظائف العامة في سوريا كمكافأة على الانضمام إلى الميليشيات أو المشاركة في القتال دفاعًا عن النظام السابق، أو أي سلوك يترتب عليه انتهاك حقوق الإنسان.
وتعتبر هذه المعايير أساسية لتحديد الموظفين المستحقين للبقاء في المؤسسات، بما يحمي حقوق المواطنين ويعزز مصداقية الدولة الجديدة، ومن حيث المبدأ، لا تعني هذه المعايير أن يطرد جميع الموظفين ولا أن يتم التطبيق بشكل فوري ومباشر، بحسب العبد الله.
ويتطلب التفحّص الفردي، بحسب حديث العبد الله إلى عنب بلدي، جمع الأدلة والشهادات بشكل دقيق، كما ظهر في محاولات الإصلاح القضائي التي قامت بها وزارة العدل في حزيران الماضي، حيث أخضعت مجموعة من القضاة للتحقيق والتفتيش، وتم عزل من ارتكب مخالفات جسيمة وانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان، سواء عبر محاكم الإرهاب أو المحاكم الميدانية، وتمثل هذه التجربة، بحسب العبد الله، نموذجًا لكيفية تحقيق الموازنة بين الإصلاح المؤسسي ومحاسبة الأفراد دون الوقوع في فخ الانتقام الجماعي.
ضمانات الطعن ضروريةشدد الباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله على ضرورة وجود ضمانات قضائية للطعن في إجراءات التفحّص الوظيفي، إذ يجب أن تتوفر مرجعية قانونية يمكن للموظف أو الموظفة اللجوء إليها إذا شعر بأنه تعرّض للظلم أو صدرت بحقه قرارات دون أدلة واضحة، ويعتبر العبد الله أن الرقابة القضائية تشكّل حماية حقيقية ووسيلة لضمان عدم الانحراف عن المعايير القانونية، بما يبعد الإجراءات عن الطابع الانتقامي أو العشوائي.
وعما جرى في سوريا ضمن هذا المسار منذ سقوط النظام حتى الآن، يرى العبد الله أن ما جرى يمثل محاولة مقبولة للموازنة بين ضرورة تفحّص السجلات وطرد المتورطين، وبين استمرار عمل المؤسسات العامة بكفاءتها، ويشرح أن هذه الموازنة تتحقق من خلال عملية إحلال تدريجي، تبدأ باستبعاد الموظفين المرتبطين بالانتهاكات في المستويات العليا، ثم تتدرج إلى الطبقة المتوسطة، مع العمل على استقطاب الكفاءات وتدريبها وإدماجها في المؤسسات بشكل مدروس.
بهذه الطريقة، يضمن المسار استمرارية المؤسسات العامة وتطهيرها من الموظفين المرتبطين بالفساد والانتهاكات في الوقت نفسه، مع تقديم صورة جديدة أمام المواطنين تصوّر متطلبات العدالة الانتقالية والإصلاح المؤسسي، تابع العبد الله.
أهمية التشريع في حماية استقلال العدالة الانتقاليةحدد الإعلان الدستوري، بوصفه الوثيقة القانونية الأعلى في البلاد حاليًا، بوضوح أن سلطة التشريع محصورة بالسلطة التشريعية وحدها، وأن أي قانون لا يكتسب شرعيته إلا إذا أقرّه هذا المجلس، ومن هنا، يصبح تجاوز هذه القاعدة مساسًا مباشرًا بمبدأ الفصل بين السلطات، وفتحًا لباب تغوّل السلطة التنفيذية على مسار العدالة الانتقالية، وهو مسار يُفترض أن يكون محميًا من التدخلات السياسية والإدارية، وفق الدكتور في القانون العام وعضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري أحمد قربي.
ويرى قربي، في حديث إلى عنب بلدي، أن كثيرًا من القضايا المرتبطة بالمساءلة أو بالتعويض منصوص عليها أصلًا في القوانين النافذة، مثل القانون المدني وقانون العقوبات، وأن تعديل هذه القواعد لا يمكن أن يتم إلا عبر تشريع جديد، وبالتالي، فإن أي محاولة لمعالجة هذه المسائل بقرارات تنفيذية ستكون بلا أثر قانوني فعّال، لأنها لا تملك القدرة على تعديل أو تجاوز النصوص التشريعية القائمة.
وإذ تأتي التشريعات في المرتبة الثانية بعد الإعلان الدستوري، فإن إصدار قانون خاص بالعدالة الانتقالية يمنحه قيمة معنوية ورمزية إضافية، ويؤكد على مكانته في البنية القانونية للدولة، وإذا كان إدراج قواعد العدالة الانتقالية ضمن النص الدستوري غير ممكن في المرحلة الراهنة، فمن الطبيعي أن يُمنح هذا الملف ثقله القانوني عبر تشريع يقرّه البرلمان، ليشكّل الأرضية المناسبة لأي تحول قانوني مستقبلي.
أين وصل قانون العدالة الانتقالية؟قامت المرحلة الأولى بعد إسقاط النظام السابق بعملية تطهير واسع من خلال قرار حل أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” ومؤسسات القوة الخشنة وهي الجيش والأمن، إلا أنه ومع غياب الإطار القانوني للعزل السياسي والتفحص الوظيفي، ظهرت حالة من الارتباك على صعيد المؤسسات العامة الأخرى والشبكات الأكثر عمقًا، وعلى مستوى العزل السياسي الفردي ونطاقه، بحسب الباحث في مركز “الحوار السوري” نورس العبد الله.
وتعمل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، منذ تشكيلها في آب الماضي وفق المرسوم رقم “149”، على إعداد قانون للعدالة الانتقالية في سوريا، لعرضه على مجلس الشعب القادم بعد استكمال أعضائه للتصديق عليه.
المكتب الصحفي في الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية قال لعنب بلدي، إن الهيئة تعمل منذ أشهر على تطوير المسودة الكاملة لقانون العدالة الانتقالية، وقد وصلت إلى المرحلة النهائية من الانتهاء من المسودة الأولى.
وستقوم الهيئة بإجراء مراجعات تفصيلية بالتعاون مع خبراء قانونيين ومختصين في حقوق الإنسان وممثلين عن المجتمع المدني، وروابط الضحايا، لضمان أن يكون القانون شاملًا ويستجيب لمتطلبات المرحلة الانتقالية واحتياجات الضحايا.
كما سيتم الإعلان عن التفاصيل النهائية فور انتهاء المراجعة الفنية، حرصًا من الهيئة على أن تكون كل المواد دقيقة وفاعلة وقابلة للتطبيق، وسيتم طرح هذه المسودة قريبًا على المجتمع المدني والأكاديميين والاختصاصيين للاطلاع وإبداء الرأي عبر رابط إلكتروني مخصص لهذا الغرض، بحسب المكتب الصحفي.
ماذا أنجزت الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية حتى الآن؟قامت الهيئة خلال الفترة الماضية بعدد من الخطوات الأساسية التي تشكّل قاعدة مسار العدالة الانتقالية، وأهمها:
1- صياغة المسودة الأولية لقانون العدالة الانتقالية بالتشاور مع كلية الحقوق في جامعة “دمشق”، وخبراء وناشطين ومؤسسات حقوقية.
2- العمل على بناء قاعدة بيانات للضحايا وذويهم بهدف ضمان حقوقهم في مراحل جبر الضرر والمساءلة.
3- وضع إطار أولي لآليات جبر الضرر بما يشمل الإصلاحات ضمن دائرة التوقعات.
4- تنسيق مباشر مع الجهات القضائية لضمان تكامل المسارات بين القضاء الوطني ومتطلبات العدالة الانتقالية.
5- تنظيم جلسات استماع تشاورية مع ممثلين عن الضحايا والمجتمع المدني لتضمين رؤاهم في سياسات الهيئة.
6- إعداد استراتيجية اتصال وتوعية لتعزيز فهم الجمهور لأهمية العدالة الانتقالية ومساراتها.
المكتب الصحفي في الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية
مرتبط
إقرأ المزيد


