علي عيد
تابعت الجدل حول رسم “كاريكاتوري” للصديق الزميل علي حمرة، في صحيفة “الثورة السورية”، ويجسد بطريقة ساخرة ما اعتُبِر مطالبات بالشفافية والدولة المدنية من قبل “جرذان تخرج من فتحات داخل تمثال محطم لرأس النظام السابق، بشار الأسد.
فهم كثيرون أن في ذلك إساءة لدعاة “الدولة المدنية” والشفافية، وأن فيه تعميمًا، ويقول إن “من يطالبون بالشفافية والدولة المدنية هم مجموعة من الجرذان الخارجين من عباءة وبقايا النظام السابق”. فيما فهم آخرون أن الخلاصة تقول، إن “من كانوا جزءًا من منظومة الفساد والقمع” يحاولون الظهور بمظهر المطالبين بالدولة المدنية والشفافية”، وأن “شعارات الثورة تتحول إلى مظلّة يختبئ تحتها من وقف يومًا ضدها”.
أحد الصحفيين قدم قراءة ملخصها هو: أن يقول “كاريكاتور” إن “الجرذان” ترتدي “الجينز” لا يعني أن “الكاريكاتور” ينتقد “الجينز”، بل الجرذان التي ترتدي ما لا يليق بها.
تمت إزالة الرسم “الكاريكاتوري” من الصحيفة مع اعتذار عن “خطأ غير مقصود”، كما خرج الرسام الصحفي نفسه شارحًا ما قصده دون أن يتخلى عن لوحته.
هناك ما هو إيجابي في المسألة، مقابل هشاشة في فهم مقاصد فن “الكاريكاتور” إجمالًا.
الإيجابي هو ممارسة الرقابة الذاتية التي تحمي الإعلام وتعوض غياب القوانين، وهو الاعتذار وسحب الرسم من الصحيفة لأسباب موضوعية تتعلق بموقف الصحيفة ذاتها أو الإعلام السوري خلال هذه الفترة، حيال كل ما يمكن اعتباره انتقاصًا أو تحريضًا أو خطاب كراهية ضد فئة أو فئات في المجتمع، وكذلك محاولة لتوسيع هامش الانخراط السياسي لكل الطيف السوري، وكسب ثقة الجمهور.
وما سبق لا يلغي ما قاله علي حمرة، بأن المقصود ليس من يطالبون بالدولة المدنية والشفافية، بل بمن خرجوا من “جمجمة الأسد” رافعين هذه الشعارات، بينما هم لم ينفصلوا تمامًا عن نظامه طوال سنوات الحرب.
السلبي، برأيي، هو عدم فهم دور “الكاريكاتور” في الصحافة، باعتباره رأيًا، وليس مادة خبرية، أو موقفًا رسميًا لصحيفة، أو حكومة أو حزب، وبالتالي فإن سحبه بهذه الطريقة قد يعطي انطباعًا بأن هناك مستويين مختلفين للمنع، الأول منع لأي محتوى لا يراعي معايير حق الجميع في التعبير وحرية الرأي، وهو أمر مفهوم ومقبول، والثاني منع وتقييد للتفكير والإبداع ومساحة الرأي، وهذا خطر على الحريات والإبداع والتفكير.
في ظروف أفضل، يجب ترك هذا الرسم “الكاريكاتوري”، كمساحة للجدل والتنوع، على أن تكون أبواب القضاء مفتوحة لمن يعتقد أن الفنان ارتكب إساءة بحقه، حيث يقدم الفنان والمتضرر مبرراتهما وفق القانون.
شهد العالم محاكمات أو اختلافات تتعلق برسوم “الكاريكاتور” في الصحافة، وحوكم رسامون على أفكارهم من قبل السلطة والمجتمع، وهذا تعبير عن حيوية هذا الفن ودوره في الصحافة.
من الأمثلة الإشكالية، مجلة “شارلي إيبدو” في فرنسا، إذ خاضت سلسلة محاكمات منذ التسعينيات، واتهم الرسامون بازدراء الأديان، والتحريض على الكراهية، وتجاوز “حدود الحرية”.
برأت المحكمة “شارلي إيبدو” في قضية نشر الرسوم المسيئة لنبي الإسلام، لكنها، وفق القانون الفرنسي، مستندة إلى كون الرسوم تهاجم أفكارًا ورموزًا لا أشخاصًا، ولا تستهدف المسلمين كجماعة، كما اعتبرت أن حرية التعبير تشمل الحق في السخرية الصادمة، ما دامت لا تدعو إلى التمييز أو العنف.
ما حصل أن فهم رافضي “الكاريكاتور” تسبب بالعنف، في هجوم 2015، وهذا ما يستدعي التفكير في رفع منسوب الرقابة الذاتية في الإعلام، حتى لدى المدافعين عن الحرية.
سؤال: هل سيرضى الجمهور الرافض لرسم “الجرذان” إذا لاحظ في اليوم التالي “كاريكاتورًا” يسخر من رموز السلطة؟ على اعتبار أن من أهم مبادئ “الكاريكاتور” الانحياز للحقيقة لا للسلطة، وهو بطبيعته فنّ معارض، حتى حين يضحك.
الإجابة عن السؤال تقودنا إلى احتمال أن يتسبب الأمر بموجة من الغضب، ما يعني أن سوريا تعيش وضعًا معقدًا وهشًّا من الناحية الاجتماعية والقانونية، لا يمكن فيه تقييم المسائل المهنية دون دراسة موضوعية لمزاج الشارع المتحفّز، حتى لو بدت السلطة متسامحة.
هذا الفن الصحفي ليس ترفًا بصريًا ولا نكتة على هامش الصفحة، بل اختزال ذكي، وتفكير نقدي مكثّف، يجسد ما لا تستطيع المقالات المكتوبة قوله.
تقول القاعدة، إنه “لا كاريكاتور بلا هامش حرية”، ولا حرية بلا استعداد لدفع ثمنها، وإن “الكاريكاتور” جهاز إنذار مبكر، وعندما يُمنع، هناك شيء ما يتعفّن، وهو لا يُحاكَم لأنه غير دقيق، بل لأنه واضح أكثر من اللازم.
فيما يخص رأيي الشخصي، رغم سحبها الذي لا أؤيده، تعكس لوحة “الجرذان” حيوية المجتمع السوري ومرونة صانعي القرار، رغم الهشاشة، مقابل الحاجة للمواءمة بين ظروف البلاد وحاجتها لقانون يحمي الأفكار.. وللحديث بقية.
مرتبط


