إيلاف - 10/20/2025 12:00:48 AM - GMT (+2 )

إيلاف من الرباط: ترأس العاهل المغربي الملك محمد السادس،مساء الأحد بالقصر الملكي بالرباط، مجلسًا وزاريًا خصص للتداول في التوجهات العامة لمشروع قانون المالية (الموازنة) لسنة 2026، والمصادقة على عدد من مشاريع القوانين التنظيمية والمراسيم والاتفاقيات الدولية، بالإضافة إلى تعيينات جديدة في مناصب عليا بالإدارة الترابية.
ويشكل هذا المجلس الوزاري محطة سياسية وتنموية كبرى، بالنظر إلى طبيعة الملفات المعروضة فيه، والتي تكشف عن رؤية ملكية شمولية تروم تسريع التحول الاقتصادي والاجتماعي للمملكة، في ظل سياق دولي وإقليمي متقلب.
توجيه استراتيجي لإرساء “المغرب الصاعد”
أكد العرض الذي قدمته وزيرة الاقتصاد والمالية المغربية أمام الملك محمد السادس أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 أُعدّ في ضوء التوجيهات الملكية الواردة في خطابي عيد العرش وافتتاح السنة التشريعية، ويرتكز على أربع أولويات كبرى، تمثل ملامح مرحلة جديدة من النموذج التنموي المغربي:
أولا، توطيد المكتسبات الاقتصادية وتعزيز مكانة المغرب ضمن الدول الصاعدة عبر تحفيز الاستثمار الخاص، وتسريع تفعيل ميثاق الاستثمار، وتثمين فرص الهيدروجين الأخضر، مع دعم المقاولات الصغيرة والمتوسطة.
ثانيا، إطلاق الجيل الجديد من برامج التنمية المجالية المندمجة، وفق مقاربة تشاركية تعتمد الخصوصيات المحلية، وتكرس مبدأ التضامن بين الجهات.
ثالثا، مواصلة بناء الدولة الاجتماعية من خلال تعميم الحماية الاجتماعية، ودعم الأسر والأطفال، وتوسيع برامج السكن والمساعدة المباشرة.
رابعا، الاستمرار في الإصلاحات الهيكلية الكبرى للحفاظ على توازن المالية العمومية وإعادة هيكلة المؤسسات والمقاولات العمومية.
وتعكس هذه الأولويات انتقال المغرب من مرحلة “الإنجازات القطاعية” إلى مرحلة التنسيق المجالي المندمج، حيث تُعتبر العدالة الاجتماعية والعدالة المجالية وجهين لمشروع الدولة الحديثة.
الجيل الجديد من البرامج التنموية: مقاربة ترابية غير مسبوقة
أحد أبرز المحاور التي توقف عندها بيان الديوان الملكي هو إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية، بمقاربة جديدة وصفها المراقبون بأنها “نقلة نوعية في التفكير التنموي”.
هذا التوجه يهدف إلى تحقيق تنمية شاملة بمنظور جديد ومختلف، يقوم على:
أولا، البعد الترابي، عبر استثمار مؤهلات كل منطقة واعتماد جهوية موسعة؛
ثانيا، الطابع المندمج، عبر التقاء المشاريع في رؤية موحدة ومؤسسات متابعة رقمية؛
ثالثا، العدالة المكانية والاجتماعية، من خلال التركيز على المناطق القروية وشبه الحضرية ذات الخصاص الكبير.
ويشمل البرنامج أولويات محددة في مجالات التربية والصحة والماء والتأهيل الترابي والتشغيل، مع إجراءات ملموسة كتعبيد المسالك القروية، وتجهيز المدارس، وإطلاق وحدات صحية متنقلة، واعتماد حلول طاقية ومائية مستدامة.
يعكس هذا التوجه، في العمق، تحولًا من “برامج فوقية” إلى “تنمية بالمشاركة المحلية”، انسجامًا مع الرؤية الملكية لتمكين الجهات والفاعلين المحليين.
إصلاحات سياسية عميقة
صادق المجلس الوزاري أيضًا على أربعة مشاريع قوانين تنظيمية، تؤشر على إصلاح عميق في النظام السياسي والدستوري المغربي:
أولا، مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب، الذي يهدف إلى تخليق الحياة الانتخابية وضمان شفافية الاستحقاقات المقبلة، مع تحفيز مشاركة الشباب والنساء عبر تحفيزات مالية موجهة.
ثانيا، مشروع القانون التنظيمي للأحزاب السياسية، لتأهيل العمل الحزبي وتعزيز الحكامة الداخلية ومشاركة الفئات الصاعدة.
ثالثا، مشروع القانون المتعلق بالدفع بعدم دستورية القوانين، الذي يكرس حماية الحقوق والحريات الدستورية للأفراد.
رابعا، مشروع تعديل القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، لتعزيز فعاليتها وشفافيتها في تدبير الطعون الانتخابية.
هذه النصوص تترجم رغبة الدولة في ضمان نزاهة العملية الديمقراطية وتعميق ثقافة المساءلة، ضمن مسار تحديث المؤسسات وتحصينها من الانحرافات.
مراسيم عسكرية واتفاقيات دولية
جرت ايضا خلال المجلس الوزاري المصادقة على مشروعي مرسومين يهمان المجال العسكري، أحدهما يخص موظفي المديرية العامة لأمن نظم المعلومات بإدارة الدفاع الوطني، والآخر بتنظيم المدرسة الملكية لمصلحة الصحة العسكرية، في انسجام مع التحولات الأمنية والتكنولوجية العالمية.
وعلى الصعيد الخارجي، وافق المجلس الوزاري على 14 اتفاقية دولية، منها اتفاقيات قضائية وعسكرية وضريبية، وأخرى متعددة الأطراف تخص استضافة مقرات إفريقية، ما يعزز الريادة الدبلوماسية للمغرب في القارة.
تعيينات جديدة، ونفس إداري متجدد
وطبقًا للفصل 49 من الدستور، وباقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من وزير الداخلية، عين الملك محمد السادس 15 واليًا وعاملًا (محافظا) جديدًا بمختلف جهات وأقاليم المملكة، في ما يترجم إرادة ملكية لضخ دماء جديدة في الإدارة الترابية، وربط المسؤولية بالمحاسبة. إضافة إلى تعيين طارق الصنهاجي رئيسًا للهيئة المغربية لسوق الرساميل، في خطوة تؤكد العناية الملكية بتحديث القطاع المالي الوطني.
نحو “عقد اجتماعي وتنموي جديد”
يحمل هذا المجلس الوزاري دلالات متعددة، لعل أبرزها أن الملكية المغربية تعيد اليوم ترتيب أولويات الدولة حول محور التنمية المتوازنة والعدالة الترابية، في لحظة دقيقة من التحولات الجيوسياسية والاقتصادية.
فالمغرب، الذي رسخ مكانته كفاعل استراتيجي في إفريقيا والمتوسط، يسعى اليوم إلى تحصين جبهته الداخلية عبر تنمية القرى والهضاب والمناطق الجبلية، وتحويل اللامركزية إلى أداة فعلية للتنمية.
كما أن التوجه نحو الحكامة الرقمية والمساءلة المحلية يشير إلى وعي متقدم بضرورة تجديد أدوات الدولة في إدارة التنمية، بما يجعلها أكثر قربًا من المواطن وأكثر فعالية في الإنجاز.
ويرى المراقبون أن انعقاد هذا المجلس الوزاري في خريف 2025 لا يمكن قراءته إلا بوصفه حلقة مفصلية في بناء “المغرب الجديد”، حيث تتقاطع الإرادة السياسية العليا مع المقاربة الميدانية المحلية، وتلتقي العدالة الاجتماعية بالتنمية الاقتصادية، في أفق 2026 الذي يبدو واعدًا بمشاريع تحول حقيقية.
إقرأ المزيد