موقع فل فن - 11/11/2025 5:58:51 PM - GMT (+2 )
* د.أحمد مجدي ناقد وعضو هيئة تدريس بقسم الدراما والنقد المسرحي بكلية الآداب جامعة عين شمس
لم تكن تتوقع الكاتبة ماري شيلي (Mary Shelley) أن تتحول روايتها (فرانكنشتاين) التي كتبتها عام 1818 إلى واحدة من أهم وأشهر روايات الخيال والفانتازيا القوطية المُلهمة للخيال الأدبي والسينمائي، بتناولها المختلف لموضوعات هامة مثل مخاطر الطموح العلمي الجامح، الذي يقود في النهاية إلى كوارث وعواقب وخيمة على البشرية، عندما يلعب عالم شاب يدعى فيكتور فرانكنشتاين دور الإله ويصنع كائنًا هجينًا مخلقًا من الجثث الميتة، ويتحول من حينها إلى كائن حي خالد يقف في وجه الموت، يُرضي الغرور العلمي لصانعه، ولكنه يحمل داخله ثورة غضب هائجة تحرق كل من يقترب منها، اعتراضًا على خلقه على شاكلة وحش مقيت، يخاف منه الجميع، فتتحول نعمة الحياة الخالدة إلى نقمة على هذا الكائن، ويتحول الغرور العلمي للصانع إلى ندم يصاحبه حتى الموت.
تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا
وقد قامت شركة نيتفيلكس بإعادة إنتاج وطرح رواية فرانكشتاين في معالجة حديثة، من إخراج (جييريمو ديل تورو)، وبطولة أوسكار إيزاك ( في دور فرانكشتاين) وجاكوب إلوردي ( في دور الكائن) وميا جوث (في دور إليزابيث) ، وعُرض الفيلم على منصة نيتفيلكس في السابع من شهر نوفمبر، ليعد من أبرز أفلام عام 2025، وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها تقديم فيلم مستوحى من الرواية، حيث صدر أكثر من فيلم يقدم معالجة لرواية فرانكشتاين، مثل فيلم (فرانكشتاين Frankenstein) عام 1931 والجزء الثاني منه (عروس فرانكشتاين The Bride of Frankenstein) عام 1935، ويعتبر الفيلمان من كلاسيكيات السينما، ومن إنتاج شركة يونيفرسال بيكتشرز، بينما تم تقديم معالجة أخرى عام 1994 من إخراج كينيث برناه (Kenneth Branagh) وبطولة روبرت دي نيرو ((Robert De Niro.
ما يضيفه المخرج (جييريمو ديل تيرو) في المعالجة الجديدة التي لا تختلف كثيرًا عن الرواية الأصلية؛ الأجواء والفنون القوطية Gothic Arts)) المتقنة للعمل؛ من لوحات وأبنية وأزياء وأجواء روحانية غامضة، وأبراج ضخمة (منهم مختبر فرانكشتاين الذي يتشكل في صورة برج كاتدرائي) تجعلك تشعر إنك انتقلت إلى حقبة العصور الوسطى والمظلمة في أوروبا، بالإضافة إلى التماثيل والوجوه الحجرية النابضة بالحياة والموجودة في كل مشهد، والتي تشهد وتجسد في آن واحد عملية التحول الكبرى في الفيلم للكيانات الميتة والساكنة، مثل مخلوق فراكنشتاين الذي يشبه التماثيل الحجرية، إلى كيانات تكتسي بالحياة، ليصبح الموت مرافقًا للحياة في هذا الفضاء الغرائبي الساكن الذي يُخفي خلف أقنعة تماثيله وكائناته الحياة الحقيقية.
المخرج أراد أيضًا أن يُشعر الجمهور بعلاقة انجذاب وحب مع هذا المخلوق (الميت/ الحي) منذ اللحظة الأولى من ولادته، ولذلك جعل سرد القصة يتحقق من خلال تقنية الفلاش باك من منظور فرانكشتاين، ثم منظور المخلوق نفسه وهو يتحدث عن معاناته، وذلك بغرض الغوص في أعماق شخصيته، وكشف حزنه الدفين ووحدته وعزلته النفسية، بعد أن تخلى عنه صانعه، وقام بمحاولة التخلص منه، وإحراق المختبر البحثي الذي شهد ولادته، فور أن تيقن هذا الصانع أن المخلوق لم يتطور ولن يحقق طموحه المغرور في التفرد والتباهي داخل الأوساط والأروقة العلمية. فبعد محاولات فاشلة من تعليم فرانكشتاين لبعض الأشياء البسيطة لمخلوقه الذي لم يستجب له، يكتشف فرانكشتاين أن ذلك المخلوق ما هو إلا عقلًا غبيًا في جسد عملاق، وأنه لن يضاهي الإنسان في التفكير والإحساس، ولكنه كان مخطئًا، حيث يثبت الوحش في النهاية أنه وحشًا رغمًا عنه، بظهوره بشخصية مرهفة الحس، وقيامه بأفعال تثبت حبه وولائه لمن حوله، وهو ما يتنافى مع هيئته المخيفة.
في مشهد حرق المختبر أو البرج الكاتدرائي الذي يعكس أجواء البعث الغامضة والمظلمة للمخلوق، نسمع دوي صرخات المخلوق وهو ينادي على فرانكشتاين بحرقة عدة مرات، وكأنه يستنجد بوالده، والملاذ الآمن بالنسبة له، حيث أن كلمة فرانكشتاين هي الكلمة الوحيدة التي يعرفها ويحفظها عن ظهر قلب، ولما لا وهي اسم صانعه ووالده الذي بعثه للحياة مرة أخرى، لكنه تخلى عنه في النهاية، فأطلق الجزء العنيف داخله لكي يحرق كل ما حوله بعنف‘ عدا إليزابيت خطيبة شقيق فرانكشتاين التي تتعرف عليه مصادفة داخل المختبر، وتشعر في داخلها أنه المخلوق الأنقى والأطهر على وجه الأرض، وتنشأ بينهما علاقة انجذاب خفية وشائكة بين فتاة وجدت الروح الإلهية النقية التي كانت تحلم بها طوال عمرها، وبين وحش وجد نصفه الآخر ورفيقته الأبدية التي سوف تخلصه من الوحدة القاتلة، وتعينه على مواصلة الحياة التي لم يختارها ولا الجسد الذي وُلد فيه.
هذا الكائن الهش المعذب الذي لم يطلب أن يولد أو يُبدي رأيه في الجسد المشوه الذي وُلد فيه، أو في مظهره المرعب، ولم يرغب إلا في أن يكون محبوبًا، وليس وحيدًا، ولكن بسبب أمورٍ لا يملك السيطرة عليها، لم يسمح له العالم بذلك، لأنه مهما فعل، سينظر إليه كوحشٍ أولاً، حيث لن يمنحه أحدٌ فرصةً ليكون شيئًا آخر يرغبه. تمامًا مثل شخصية ميدوسا التي تظهر بصورة واضحة في شكل تمثال صارخ وبائس كبير الحجم يستقر خلف فرانكشتاين ، وهو يُكمل صناعة مخلوقه المُمدد على طاولة الجراحة، وذلك في إشارة مهمة من المخرج أن الشخصيتان قد تعرضا لظلم مماثل، فقد تحولت ميدوسا الجميلة في الأساطير الإغريقية إلى وحش مقيت، بعد أن صبت عليها الإلهة أثنيا لعنة وهي؛ أن كل من ينظر إليها يتحول إلى حجر رغمًا عنها (بسبب أنها كانت كاهنة للربة أثينا، وفقدت عذريتها بعد اغتصاب الإله بوسايدون لها فغضبت منها أثينا وعاقبتها) كيفما سيتحول المخلوق إلى وحش مرعب رغمًا عنه أيضًا، على يد صانعه الجامح.
وما إن يكتسب مخلوق فيكتور فرانكشتاين، صفات وقدرات بشرية لا تقتصر فقط على مشاعر الحب تجاه إليزابيت، بل معرفة القراءة والكتابة، حتى يبدأ عذابه النفسي الحقيقي، عندما يقرأ مجموعة من الكُتب الهامة في تاريخ البشرية، يتساءل من هو، وإلى أين ينتمي، يشعر أنه دخيل وسوف يظل في عذابه بشكل أبدي، لا يستطيع حتى أن ينال الموت، فبمجرد أن يطلق عليه أي شخص النار، تنمو أنسجته مرة أخرى ويظل خالدًا، إذن لن يتمكن أبدًا من الموت والشعور بالراحة، أو حتى الحياة كما يرغب.
لا يشعر بأي مكان في وطنه، يُساء فهمه ويحتقره وينبذه الجميع، فيقرر مطاردة فرانكشتاين حتى يصنع له رفيقة تؤنس وحدته، فيتبادل الخالق والمخلوق أدوار الصياد والمُطارد، ويرفض فرانكشتاين صناعة وحش آخر له، ويقرر قتله، وينتهي الفيلم بشكل صادم بموت إليزابيت وهي تدافع عنه من طلقات فرانكشتاين، الذي يعترف أخيرًا على فراش الموت أنه أخطأ في حق مخلوقه، ويدعوه وقتها لمواصلة الحياة، بما أنه من الصعب أن يموت، فعليه أن يعيش الحياة كما يريد.
وهنا يظهر ضوء الشمس في وقت الشروق، ينظر المخلوق إلى الشمس بعين دامعة، وشعور داخلي بالحسرة والانكسار، يرمقها بنظرة حزينة ولكنها مترقبة ومنفتحة لما قد سيحدث، يقف على الثلوج، في فضاء حركي واسع وعميق، والمجال أمامه مفتوحًا، ويخطو أولى خطواته نحو الأمام، وكأنه سوف يخوض مرحلة جديدة وشاقة وطويلة مفعمة بالأمل من أجل التعافي ، في لقطة تتشابه مع لقطة رؤيته للشمس لأول مرة في المختبر، حيث حينها قام فرانكشتاين بتشجيعه على مواجهة الشمس وعدم الخوف منها، واحتضانها بذراعيه؛ لكي تنفتح له أبواب العالم الجديد.
يحاول (جييريمو ديل تورو) ألا يجعلنا نشاهد حزن هذا الكائن فحسب، بل نرى الطريقة التي يرى بها الجمال والحب والصداقة والأبوة حوله - سواء كان يحاول ذلك في بداية حياته مع صانعه، أو عندما سنحت له الفرصة أخيرًا في أن يكون حرًا في المضي قدمًا بمفرده في الحياة الجديدة. يجعلنا (ديل تورو) أن نرى الطرق التي يُشفى بها ذلك المخلوق قلبه المتعب من خلال التواصل البشري، ومحاولة التقرب لمن حوله وخاصة هؤلاء القلائل النادرين الذين يعاملونه كشخص يستحق الحب، ويذكرونه بقيمته التي لا يمكن لأي مظهر خارجي مشوه أن يمحوها، وتظهر بطولته في أنه يناضل ضد حتمية العنف والغضب في هذا العالم القاسي الذي يختزله في مظهره المرعب والعنيف رغم أن البراءة والسكون والتفاؤل والحب هي عناصر متأصلة دخل كيانه وروحه النقية التي لم يشوبها بعد أي شائبة أو خطيئة - وهي صفات يحاول يائسًا الدفاع عنها حتى يتم تجريده منها بوحشية، لكنه سرعان ما يعود إلى روحه النقية ونظرته البريئة.
وما ساعد في إظهار تلك المشاعر المتضاربة والمتناقضة بين البراءة والوحشية، الأداء التمثيلي المتميز للممثل (جاكوب إلوردي)، وعدم مبالغة فريق العمل في تنفيذ مكياج الشخصية بشكل مصطنع، مثل ما يحدث في بعض الأفلام التي تنتمي لنفس النوع الفيلمي، مما يفقد الشخصية حضورها، ويجرد الممثل من انفعالاته، ويتحول حينها إلى دمية أو آلة صماء تخلو من جميع التعبيرات والمشاعر، حيث كان المكياج مقبولًا إلى حد ما، ولم يعوق الممثل بشكل كبير في تمثيل صورة البائس والمعذب والهش نفسيًا.
إن المعنى الحقيقي في رؤية ديل تورو لهذه القصة أنه حتى لو وجدت نفسك في لحظة ما مجبرًا على شيء تمقته وتكرهه، فإنه لم يفت الأوان أبدًا لتغيير مسارك واختيار الحب مجددًا، واستكمال الحياة ومسامحة من آذاك، وهو ما يحدث في مشهد النهاية عندما يموت فرانكشتاين ويتخلى المخلوق عن قوته ورغبته في الانتقام ويسامحه ويقرر مواصلة حياته، في رؤية آسرة لكيفية تحويل الخوف والقسوة ورفض الذات إلى قوة مذهلة من التسامح والحب ومواصلة الطريق في عالم قاسي، يحتاج إلى تغيير معتقداته ونظرته إلى القبيح الذي قد يتصادف أن يكون نقيًا جليًا أكثر من الجمال الخارجي الأخَاذ الزائف، لنسأل أنفسنا في النهاية من هو الوحش الحقيقي؟ الصانع المتغطرس الذي يخطو نحو مصيره التراجيدي في النهاية بسبب غروره، أم المخلوق المشوه الذي يظهر بطلًا رومانسيًا نبيلًا في تراجيديا قاتمة، تنتهي به إلى مصير بائس يتشابه مع روحه الهشة، ولكنه مصيريتغلف بنسمات رقيقة من الأملن في أن يعيش حياته المثالية رغم قسوة الواقع.
أخيرًا نجح المخرج (جييرمو ديل تورو) في تحويل قصة فرانكشتاين إلى دراما رومانسية تستعرض مأساة الكائن المخلوق من وجهة نظره الشخصية، لكي يضفي سرده سحرًا براقًا وبعدًا إنسانيًا فريدًا على شخصيته، وهو ما يجعلها محورًا جاذبًا للجمهور بعيدًا عن القصص الرومانسية التقليدية. وهي ليست السابقة الأولى لـ ديل تورو أن يستعين فيها بكائنات غريبة أو مختلفة عن التصور التقليدي، حيث قام في عام 2017 بإخراج فيلم (The Shape of Water) وتدور أحداثه في فترة الحرب الباردة، حول امرأة خرساء يجمعها علاقة رومانسية بمخلوق برمائي غامض محتجز في مختبر حكومي. وقد نال إشادة النقاد وحاز على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، ليثبت ديل تورو في أعماله أن النبل والحس الرومانسي لا يرتبط بالضرورة بالإنسان، ولكنه قد يولد وينمو داخل كيانات مخيفة في مظهرها، لكنها نبيلة في جوهرها.
اقرأ أيضا:
فيديو - تفاصيل التقرير الطبي للراحل إسماعيل الليثي ... تهتك في الرئة وكسر في الجمجمة
محمد سعد وعمرو سعد وميرفت أمين من بينهم ... نجوم الفن يقدمون واجب العزاء لمحمد رمضان في وفاة والده
لو فاتك: فن ولا فنكوش - 16 سؤال كل واحد هيجاوب لوحده ... عرفت كام سؤال منهم؟
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5
إقرأ المزيد


